منذ نحو أسبوعين، تستمرّ حملة القصف التي تشنّها قوات النظام السوري على الغوطة الشرقية، مخلّفة عشرات القتلى بين المدنيين. يأتي ذلك وسط الحصار المطبق منذ سنوات على المنطقة، فالنظام يمنع إدخال المساعدات الإنسانية، ولا سيّما الأدوية والمواد الغذائية لنحو 350 ألف مدني. ويأتي البرد اليوم ليهدّدهم إلى جانب الجوع والمرض والقصف والغارات.
أبو هاني واحد من هؤلاء، يجد نفسه في حيرة، إذ لا يعرف كيف يطعم أطفاله الأربعة. حيرة تتكرّر يومياً، فهو من دون عمل بسبب عدم توفّر فرص في المنطقة، بالإضافة إلى أنّه يعاني من إصابة في إحدى ساقَيه. ويخبر "العربي الجديد" أنّه "قبل أربعة أعوام، أصبت بطلق ناري مباشر من قبل عناصر حاجز قوات النظام السوري خلال توجّهي من حيّ جوبر الواقع شرق مدينة دمشق إلى بلدة زملكا في الغوطة الشرقية. كنت أحاول النزوح مع عائلتي هرباً من القصف الذي طاول حيّ جوبر حينها".
تلقّى أبو هاني العلاج في مستشفيات ميدانية في الغوطة، قبل أن يستقرّ في منزل لا يصلح للسكن في بلدة زملكا مع زوجته ووالدته وأطفاله الأربعة. فيقول: "كبروا وسط الحصار ولم يعرفوا ولم يروا أيّ شيء غير حصار الغوطة الشرقية والقصف والدمار". ويشتكي من "هموم الحياة"، فهو بالكاد يجد ما يطعم به أطفاله لمرّة واحدة في اليوم، وأحياناً لا يجد. ويخبر كيف يقضي نصف يومه وهو يبحث عن الطعام، ونصفه الآخر وهو يفكّر في كيفية تأمينه في الغد. والطعام يكون غالباً حساء مصنوعاً من العدس أو دقيق القمح الذي يؤمّنه لهم "أهل الخير" بحسب ما يصفهم أبو هاني. وحتى يضمن طهي الحساء وتدفئة المنزل في البرد، يجمع أعواد الخشب والورق والنايلون والبلاستيك من أجعل إشعالها.
أحياناً، تتوفّر سلع غذائية معيّنة في الغوطة، لكنّ أبو هاني يعجز عن شرائها بسبب ثمنها المرتفع وعدم توفّر المال أو العمل الذي يدرّ المال. وفي حال توفّرت فرصة عمل ما، فإنّه لا يستطيع العمل كما يجب نتيجة الإصابة التي تعرّض لها. ويشير أبو هاني إلى أنّ الشتاء حلّ ولا يمكنني شراء كيلوغرام واحد من الحطب أو السكر أو الطحين بسبب غلاء أسعارها الفظيع".
صغار يشتهون الطعام
تجدر الإشارة إلى أنّ أبو هاني يعيش مع زوجته وعائلته في منزل من دون أبواب ونوافذ. وتقول أم هاني إنّ "الأولاد يشتهون الطعام كثيراً، لكنّني أعمد دائماً إلى إلهائهم والضحك عليهم عبر وضع الماء على النار وإشعال الحطب ريثما ينامون". وتشير إلى أنّ مطبخها في ذلك الذي يسكنونه، "لا يشبه المطابخ الحقيقية ولا يمكن أن يُطلق عليه اسم مطبخ".
وتعبّر أم هاني عن استيائها الشديد من الوضع المتردّي الذي وصلوا إليه نتيجة الحصار، لافتة إلى أنّ "أطفالي لا يتلقون التعليم بطريقة جيّدة في الغوطة. هم يذهبون إلى المدرسة من دون طعام". يُذكر أنّ حماتها المتقدّمة في السنّ، فقدت نظرها بسبب المرض.
وتتحدّث أم هاني عن وفاة شقيقها على خلفيّة مرض كان يعاني منه، إذ "منعتنا قوات النظام من إخراجه ونقله إلى مدينة دمشق لتلقي العلاج هناك. مرضه لم يكن عضالاً، وكان ثمّة دواء له في دمشق، لكنّ عدم توفّره في الغوطة نتيجة الحصار تسبّب بوفاته ويتّم أطفاله". وتصرّ أم هاني على توجيه رسالة إلى الأمم المتحدة والمعنيين بقضيّة حصارهم، بأن يتوجّهوا إلى الغوطة الشرقية ويجبروا النظام على فكّ الحصار وإدخال الطعام والدواء إلى المحاصرين وفتح طريق لخروج المدنيين.
استغلال للحصار
في السياق، تخطّى سعر كيلوغرام السكر عشرة آلاف ليرة سورية أي نحو 23 دولاراً أميركياً، وذلك بسبب استغلال التجّار للحصار المفروض على الغوطة الشرقية، فضلاً عن الإتاوات المفروضة كذلك من قبل النظام على التجار الذين يُسمح لهم بإدخال مواد غذائية وبيعها في الغوطة.
وتوضح مصادر مطلعة في الغوطة الشرقية لـ"العربي الجديد"، أنّ "حواجز النظام السوري التي تحاصر الغوطة تعمد إلى فرض غرامة مالية كبيرة تقدّر ما بين ألف وألفَي ليرة سورية (ما بين 2.3 و4.5 دولارات) على كلّ كيلوغرام واحد من المواد الغذائية التي يدخلها التجّار إلى الغوطة. وهو الأمر الذي ينعكس سلباً على المدنيين العاجزين عن تأمين مستلزمات المعيشة اليومية".
وتشير المصادر نفسها إلى أنّ "معدّل دخل الفرد في الغوطة لا يتجاوز 25 ألف ليرة (نحو 56 دولاراً) في الشهر، وهو دخل يستحيل على المواطن السوري أن يؤمّن من خلاله مستلزمات معيشته، وذلك على الرغم من الدعم التي تقدّمه منظمات دولية والمجالس المحلية من مواد أساسية كالقمح على سبيل المثال".
تنافس على الاستغلال
إلى ذلك، تتحدّث مصادر مطّلعة أخرى لـ"العربي الجديد" عن تاجر مقرّب من قوات النظام يُدعى أبو أيمن المنفوش، يدير معبر مخيّم الوافدين الذي يصل مناطق النظام بالغوطة الشرقية من جهة مدينة حرستا، بالتعاون مع قوات النظام. وهو لا يسمح لأيّ طرف غيره بإدخال مواد مختلفة، وهو الذي يتحكّم بأسعار تلك المواد في مقابل إخراج مواد معيّنة من الغوطة. وتوضح هذه المصادر أنّ المنفوش هو من أبناء مدينة مسرابا التي تقع في الغوطة الشرقية المحاصرة، وقد دخل على خط التنافس معه تاجران آخران من مدينة دوما من آل حسابا وآل الوزير، وهو الأمر الذي جعل النظام يطمع في زيادة الإتاوات التي راحت تتخطّى في الشهر الواحد ربع مليار ليرة سورية (نحو 556 ألف دولار) وتُدفع من جيوب المواطنين الفقراء.
من هو المنفوش؟
أبو أيمن المنفوش أو محي الدين المنفوش يقطن في بلدة مسرابا الواقعة تحت سيطرة "جيش الإسلام"، وهو كان يشتهر في السابق بتربية المواشي وصناعة الألبان والأجبان، ليصير لاحقاً أبرز التجّار في غوطة دمشق وريفها. وقد توسّعت تجارته لتشمل الفواكه والخضار والهواتف المحمولة والمعلبات والمحروقات.
والمنفوش يعمل على إخراج العملة الصعبة من الغوطة إلى دمشق بالتنسيق مع معارفه من ضباط النظام في مقابل إدخال بضائع إلى الغوطة الشرقية وإخراج أخرى. فهو يعمد إلى إخراج الألبان والأجبان من الغوطة وإدخال مواد لازمة بأسعار خيالية. وأكثر المواد التي يؤمّنها هي القمح والشعير لتشغيل فرن يملكه، بالإضافة إلى أعلاف لقطيع أبقار يملكه.
ويؤكّد مطّلعون لـ"العربي الجديد" أنّ "المنفوش هو الذي كان متحكماً في إدخال المواد الغذائية إلى مدينة التلّ في ريف دمشق الشمالي ومدينة قدسيا جنوب غرب دمشق. وهو الرجل الوحيد المتحكّم بأسعار المواد الغذائية في الغوطة، والمتحكم بمعبر الوافدين الذي يسيطر عليه جيش الإسلام، ويملك مكاتب شحن في مناطق سيطرة النظام في مدينة دمشق".
تجدر الإشارة إلى أنّ النظام يسمح في بعض الأحيان بإدخال مواد غذائية بحدود مئتي طن، وذلك في مقابل إتاوات وغرامات تبلغ أضعاف أسعار المواد الحقيقية، الأمر الذي يؤدّي إلى ارتفاع أسعارها بطريقة هائلة وبالتالي عدم قدرة المدنيين على شرائها. كذلك فإنّ احتكارها من قبل بعض التجار يزيد من سعرها، إذ يعمد الجشعون منهم إلى احتكار مواد وبيعها عند تعطيل المعبر.
من يشتري المواد التي يدخلها المنفوش؟ يقول أبو عامر وهو من المحاصَرين، إنّ "المدنيين الذين يتمكنون من شراء المواد التي تدخل إلى الغوطة هم الذين لديهم أقارب خارج سورية ويحوّلون لهم عملة أجنبية عن طريق محلات الصرافة التابعة للتجار في دوما وفصائل المعارضة في مناطق الغوطة الأخرى. فيمكّنهم فرق صرف العملة المحلية من شراء تلك المواد في حين يعجز المواطنون الآخرون عن شرائها، بسبب الفقر. وهؤلاء يعتمدون بصورة كبيرة على المساعدات".
ونسبة البطالة في الغوطة مرتفعة جداً نتيجة القصف وعدم توفّر فرص العمل. أمّا المواطنون الباقون فيعملون بمعظمهم كناشطين وموظفين لدى منظمات ومؤسسات مدنية وعسكرية تابعة للمعارضة السورية، ويتقاضون أجوراً متفاوتة. هؤلاء ينضمّون إلى الفئة القادرة على شراء المواد الغذائية.
يُذكر أنّ البطالة العالية في الغوطة الشرقية أدّت إلى انتشار التسوّل بصورة كبيرة كذلك عمالة الأطفال. هؤلاء الصغار راحوا يعملون في مجالات صعبة وخطرة بهدف تأمين لقمة العيش.
طمع ثمّ تسمم ووفيات
ولأنّ طمع التجار في الغوطة لا حدود له، فقد تسبّب أخيراً بعد خلطهم مادة مجهولة بملح الطعام بوفاة ثلاثة أطفال وإصابة 15 آخرين بحالات تسمم في بلدة سقبا. وكشفت مديرية صحة دمشق وريفها التابعة للمعارضة السورية أنّ خلط مادة النتريت مع ملح الطعام هو الذي أدّى إلى ذلك. وأكّدت المديرية أنّها "حصلت على عينة من المادة المسببة للتسمم ثمّ حوّلتها إلى مخبر تحاليل متخصص لمعرفة ماهيتها، فتبيّن بعد فحص المادة وإجراء التحاليل اللازمة أنّها ملح النتريت المخلوط بملح الطعام. وقد جرى تحديد الترياق المناسب للمادة السامة وتبليغ مراكز العناية المشددة به من أجل اتخاذ الإجراءات الطبية الضرورية".
وحمّل المجلس المحلي لمدينة زملكا مسؤولية وفاة الأطفال للنظام السوري وحليفته روسيا نتيجة الحصار الذي يفرضانه على الغوطة الشرقية، فضلاً عن انعدام المقوّمات الأساسية للحياة وهي الغذاء والدواء. وجاء في البيان الذي أصدره المجلس في السياق، أنّ ندرة المواد الأساسية (الطحين والسكر والملح) وارتفاع أسعارها، يدفع الناس إلى شراء أيّ مادة تعرض من قبل الباعة المتجولين، ومن الممكن أن تكون غير صالحة للاستهلاك البشري.
ويفيد مصدر مطلع "العربي الجديد" بأنّ "الجهات الأمنية في المنطقة تعقّبت مصدر المادة التي جرى بيعها مخلوطة بملح الطعام من قبل أحد التجار في المنطقة وألقت القبض عليه، ليتبيّن أنّه هو من خلط المادة مع ملح الطعام وباعها للمدنيين".