مازال مساعد الأمين العام للأمم المتحدة المبعوث الخاص الى اليمن، جمال بنعمر، يراهن على استكمال "معجزة الشعب اليمني" رغم كل التحديات الأمنية والسياسية والاجتماعية التي تتعرض لها مسيرة الحوار الوطني، التي رعتها الأمم المتحدة والأطراف الإقليمية. وما يحصل هذه الأيام دليل على جسامة هذه التحديات كما يقول.
يربط بنعمر بين تجربته اليمنية، وسابقاً العراقية، وقبلها أفغانستان، وكذلك مشاركته في صياغة دساتير بلدان عدة، كانت شهدت صراعات ومراحل انتقالية مثل كوسوفو والبوسنة وجنوب أفريقيا.
يتذكر جمال بنعمر أيضاً عمله مع الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، وعمله على ملف دول أمريكا الوسطى والجنوبية، وكيف انتقل الى الأمم المتحدة بطلب من أمينها العام الأسبق، بطرس غالي، وقبلها عمله مع منظمة العفو الدولية "أمنستي" في لندن.
ولا ينسى بنعمر تجربة اعتقاله المريرة في المغرب بين عامي 1976 -1982 وفترة أخرى عام 1984 وإن كان لا يحبذ الاستفاضة في الحديث عنها، ويعتبرها تجربة شخصية مريرة.
هنا الجزء الأول من الحوار مع جمال بنعمر:
بدأت مساعيك في اليمن منذ انطلاق الثورة في أبريل/نيسان 2011؟ لماذا تم اختيارك لليمن، كيف بدأت المهمة؟
بدأت هذه المهمة بمبادرة من الأمين العام السيد، بان كي مون. فقد قرر في شهر أبريل/نيسان 2011 ضرورة تقصّي الحقائق أولاً. فما كان يجري، وما يصلنا من أخبار مزعجة، ينذر بإمكانية اتساع ظاهرة العنف في اليمن. وقد استخدم الأمين العام ما يسمى في ميثاق الأمم المتحدة بالمساعي الحميدة. ذلك أن هناك فصلاً في ميثاق الأمم المتحدة يمكّن الأمين العام من اتخاذ مبادرات القيام بمساعٍ حميدة لحل الخلافات والنزاعات.
طلب مني الأمين العام زيارة اليمن، وكان الوضع في ذلك الحين متوتراً جداً، وعندما أنهيت الزيارة الأولى، طلب مني مجلس الأمن تقديم إحاطة، وكان واضحاً أن هناك قلقاً على المستوى الدولي مما يجري، ولاحظت أنه على الرغم من الانقسام والخلافات التي كانت تسود مجلس الأمن، بخصوص موضوع ليبيا، إلا أنه فيما يخص اليمن فقد لاحظت -ومنذ البداية -وجود تفهم لدى جميع أعضاء مجلس الأمن، لأن انتشار العنف في اليمن قد تنجم عنه انعكاسات على الأمن الدولي، ولهذا جرى التفكير في تسوية سياسية.
في أبريل كانت المبادرة خليجية، ولكن الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، رفض توقيعها، وتعقدت الأمور، وأصبح الوضع منذراً بحرب أهلية شاملة، وأحداث شبيهة بما حصل في سورية. وعندما زرت اليمن حينذاك، كانت العاصمة مقسّمة إلى ثلاث مناطق، حتى أن بعض الزملاء قالوا، إن الوضع في صنعاء يذكرهم في بيروت أثناء الحرب الأهلية.
-ثلاث مناطق لمن؟
منطقة يسيطر عليها أتباع الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، عبر وجود الحرس الجمهوري (الجيش المنظّم صاحب أفضل تدريب وعتاد) ومنطقة أخرى تسيطر عليها قوة تابعة للواء علي محسن الأحمر الذي انشقّ آنذاك، وأعلن تضامنه مع الثورة، ثم منطقة الحصبة التي تسيطر عليها مليشيات قبلية موالية للأحمر.
كم يوماً بقيت في أول مهمة؟ كيف تحركت، من قابلت؟
كان أول درس تعلمناه، أن لكل بلد خصوصية، وله تاريخه، وتعقيداته، وديناميكيته الخاصة، ولذلك كان مهماً لنا -كأمم متحدة -أن نتحاور وننصت لجميع الآراء، وفعلاً التقيت جميع الأطراف السياسية، وزرت الشباب في الساحات والتقيت مجموعات نسائية، حاولنا ما أمكن أن نعرف ما يجري، وفي الوقت نفسه، بدأنا نفكر في كيفية حل هذا النزاع، وبما يحقق طموحات الشباب في التغيير.
قلنا هذه مطالب مشروعة. ولكن يجب أن تتحقق عن طريق عملية سياسية سلمية، وأن تكون هذه العملية السياسية تفاوضية، ويجب أن تشارك في هذه العملية جميع الأطراف، وفكرة الحوار التي طرحناها رُفضت في ذلك الوقت، ومن أطراف عدة.
من أيّ أطراف؟
بالنسبة لنا -كأمم متحدة -دعمنا عدداً كبيراً من العمليات الانتقالية في مختلف القارات، ومن بين الدروس التي تعلمناها أن هذه العمليات الانتقالية يجب أن تكون مبنية على اتفاق، ويجب أن تشارك فيه جميع الأطراف السياسية، إذا تم إقصاء أي طرف، فإن هذا الطرف، مهما كان حجمه صغيراً، سيصبح طرفاً معرقلاً.
وما طرحناه من حلول يجب ألا يأتي من الخارج. الحلول يجب أن تكون حلولاً يمنية، وهذه الحلول يجب أن تكون نتيجة للحوار، ولكن عدداً من الأطراف وقتذاك، كان يعارض فكرة الحوار بين المعارضة والنظام.
في البداية لم نكن نحظى بتأييد كبير، كنا نرى أن التغيير السلمي في اليمن ممكن. ومع أن اليمن من أفقر البلدان العربية، إلا أنه ثاني بلد في العالم من حيث انتشار السلاح بعد الولايات المتحدة الأميركية، وعلى الرغم من ذلك تشبثت حركة التغيير بمشروع تغيير سلمي، وفعلاً هذا ما جرى.
تم التفاوض على عملية انتقالية، كانت مفاوضات مباشرة ما بين طرفي الصراع بعد قرار مجلس الأمن في أكتوبر/تشرين الأول 2011 ولعبنا دور الميسّر لهذه المفاوضات التي انتهت بصياغة الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية.
هذا الاتفاق لخّص خريطة الطريق التي اتفق عليها اليمنيون، وتشمل مجموعة أسس ستحكم العملية الانتقالية، وكذلك كيفية اقتسام السلطة وعدداً من الآليات التي سيتم ابتكارها خلال تلك الفترة. باختصار كانت الفكرة هي الاتفاق على مشروع وقف إطلاق النار، ومشروع التهدئة، ومشروع إخلاء المدن من المليشيات، وفتح الطرق، وكذلك مشروع يسمح تدريجياً بتحقيق مطالب الشعب والشباب في التغيير، وهذا من خلال إشراك الشباب والنساء والمجتمع المدني في العملية السياسية، والأطراف غير البرلمانية التي لم تكن ممثلة في البرلمان، مثل الحوثيين والحراك الجنوبي، وهذا ما تم فعلاً عن طريق بلورة مشروع الحوار الوطني الشامل، وتم الاتفاق في هذا السياق على مناقشة جميع القضايا الوطنية المستعصية، كذلك الاتفاق على مشروع دولة جديدة.
مراوغة مع علي عبد الله صالح:
قابلت الرئيس، علي عبد الله صالح، ماذا قلت له، وماذا قال لك؟
المهمة الرئيسية في أول زيارة كانت التعرف على ما يجري في اليمن. لم نطرح مقترحات محددة.
لقد عبر الرئيس صالح، عن رأيه فيما يجري وعده انقلاباً على الشرعية، كان يظن أن هناك انقلاباً ضد النظام وخيانة داخل النظام، ولكن في نهاية المطاف كان متفهماً أن هناك مطالب رفعها الشباب، ولكن كان الوضع معقّداً في اليمن ومختلفاً عما حصل في تونس أو مصر، هناك فعلاً شباب خرجوا إلى الساحات ورفعوا شعارات العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة والديمقراطية، ولكن في اليمن وقع انفجار داخل النظام، وانقلبت أطراف داخل النظام على علي عبد الله صالح، هذا عقّد الموضوع، إضافة إلى أنّه في اليمن هناك نزاعات أصلاً في الجنوب و الحوثيون كانوا يسيطرون على محافظة بأكملها في صعدة، وهم طرف سياسي طبعاً، مجموعة عوامل جعلت من الحالة في اليمن حالة تنذر بإمكانية الانفجار.
ولكن كيف انتقل الرئيس صالح من فكرة أن هناك مؤامرة إلى القبول بالتنحي، هل تمّ الأمر بالسلاسة التي ذكرتها قبل قليل؟
رفض الرئيس، صالح، التنحي فتعقدت الأمور، وخلال صيف 2011 حدثت مواجهات عنيفة في عدد من المناطق في اليمن، أتذكر العنف في تعز، في صنعاء، الساحات كانت مُحتلّة من الشباب... كان اليمن على حافّة الدخول في حرب أهلية، لكن المجتمع الدولي تكلّم بصوت واحد، دعماً لجهود مجلس التعاون الخليجي، ودعماً لفكرة التسوية السياسية، وفي هذا الصدد صدر القرار الأول عن اليمن في أكتوبر/تشرين الأول 2011، وبعد شهر من صدور هذا القرار، اقتنعت الأطراف السياسية بضرورة الدخول في حوار سياسي مباشر، وهذا أدى إلى اتفاق نقل السلطة الذي تمّ التوقيع عليه في الرياض، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2011.
كم مرة قابلت الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، في هذه المهمّة؟
قابلته في كل زيارة.
كم زيارة حتى الآن؟
لحد الآن 31 زيارة الى اليمن، ولكن في أيام الأزمة في 2011، كنت أقابل الرئيس، علي عبد الله صالح، في كل زيارة مرات عدة، وفي الوقت نفسه، حافظت على علاقات واتصالات مع كل الأطراف.
هل كانت اللقاءات مرنة أم كانت هناك اختلافات حادة في وجهات النظر؟
كممثل للأمين العام للأمم المتحدة، كان واضحاً أننا لسنا طرفاً في هذا الصراع، لهذا كنّا نقف على المسافة نفسها من جميع الأطراف، تحاورنا مع الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، كما تحاورنا مع أطراف أخرى في المعارضة، مثل حزب الإصلاح الاشتراكي، الحوثيين، الحراك... وما زالت حواراتنا مستمرة مع جميع الأطراف.
ما هي أصعب تلك الحوارات، وما أسهلها، مع أي الأطراف؟
الصعوبة الأساسية كانت في البداية في إقناع الأطراف السياسية بضرورة الدخول في عملية تفاوضية تؤدي إلى تسوية سياسية مبنية على الشراكة السياسية، كان بعضٌ في المعارضة يظن أن النظام انتهى، وعلى صالح أن يوقع ويغادر، وسيستقر اليمن هكذا ببساطة. كما أن الأطراف الأخرى في الحزب الحاكم كانت تظن أن هذا النزاع مُختلق، وفي نهاية المطاف الدولة والحزب الحاكم سيسيطران على الوضع، وستنتهي هذه الثورة الشبابية، ولكن بدأ يتّضح من خلال استمرار الأزمة عدم وجود مخرج إلّا الحوار لإيجاد اتفاق سياسي، وساهم فعلاً مجلس الأمن في الدفع بهذه العملية وفي شهر أكتوبر تهيأت الظروف، وفعلاً استمرت المفاوضات مدّة أسبوع، وانتهت بالاتفاق على الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية، وهي الوثيقة التي تنظّم العملية الانتقالية السياسية في اليمن.
الصعوبة الثانية كانت ثقل التاريخ والماضي. هذه الأطراف السياسية تعاملت مع بعضها مدة طويلة، هناك تاريخ سياسي لا يمكن تجاوزه، وثقل هذا التاريخ خلّف تأثيراً عميقاً، لخصته بانعدام الثقة بين الأطراف، لكن نحن أكدنا منذ البداية أن الحل يمني، ودور الأطراف الخارجية دور مساعد وميسّر.
سنوات الرصاص:
كانت مرحلة الدراسة الثانوية وأول الجامعة مهمة جداً في تكوين جمال بنعمر، حيث انضم الى قوى اليسار الجديد واعتقل مدة ثماني سنوات بين عامي 1976-1983 ومن ثم لفترة قصيرة عام 1984
لم يترك بنعمر السجن ينهش جسده وروحه فأكمل دراسته الجامعية عن طريق المراسلة وبعد خروجه من سجنه الثاني غادر الى أوروبا، وبدأ مسيرة أخرى بدأت ضمن طاقم منظمة العفو الدولية لتستقر في الأمم المتحدة.
وقبل الانتقال الى العمل مع الأمم المتحدة تابع بنعمر نضاله المغربي، فكان أحد الساعين الى الاحتجاج على زيارة الملك الراحل، الحسن الثاني، لندن 1986.
فضح بنعمر وجود ضابط شرطة سابق، قدور اليوسفي، ضمن وفد مغربي جاء للدفاع عن حقوق الانسان في المغرب أمام مجلس حقوق الانسان في جنيف عام 1995، وكان قدور أحد الذين حققوا وعذبوا بنعمر في معتقلات سرية.
عاد بنعمر الى المغرب 2005 بعد عشرين سنة لحضور جنازة والدته، وكان في استقباله في المطار بعض رفاقه بالمعتقل، ومنهم الراحل إدريس بنزكري، رئيس هيئة الإنصاف والمصالحة، وعبد القادر الشاوي.
مازال بنعمر يزور المغرب باستمرار ويلخص تجربته الماضية بالمؤلمة ولكن ما يسعده فيها
" أن أرى الآن الأفكار التي دافعنا عنها فيما سمي في المغرب سنوات الرصاص خلال السبعينيات، أصبحت الآن كلها أفكاراً ومطالب مشروعة، وأنا أظن أنه في المغرب في السبعينيات، تمت مجابهة حركة الشباب الداعية الى التغيير الديمقراطي، بالقمع، وفي نهاية المطاف استمرت في المطالبة بالديمقراطية، ونرى الآن أنه قد تطور الوضع السياسي فعلاً بشكل إيجابي، وما زالت هناك قضايا تتطلب معالجة، ولكن لا يمكن مقارنة الوضع الآن بما كان عليه في السبعينيات".
غداً حلقة ثانية عن العراق وأفغانستان