عدتُ إلى شارع شارش ميدي في الدائرة السادسة في باريس، ولأسمّه شارع الأحزان؛ فهناك وفي مبنى إدارة مجلة "بويزي" (POESIE)، رأيتُ ولآخر مرّة صديقي الشاعر الفرنسي برنار مازو الذي ذهب ليموت في البحر، ليس غرقاً، وإنما بالسكتة القلبية، كما لو كان يسلم قلبه لمطلق البحر هو المأخوذ بالمطلق وبأشعار روني شار.
عدتُ لزيارة صديقي الشاعر لوران غاسبار (1925) الذي غاب في وهدة مرض النسيان؛ ألزهايمر. النسيان الذي سحبه من العالم وأخذه من جاكلين (1920 - 2017)، زوجته الشاعرة وأسلمها لعزلة تراجيدية.
كتبت جاكلين:
إنه خطأ المرض
وليس خطأه هو
أنا أعرف ذلك ولكن ما الذي يتغير في الأمر؟
إنه لا يغيّر شيئاً، ويغيّر كل شيء!
يتغيّر ذلك أمامي
إذ أمامي شخص لم أعد أعرفه...
لم تعد تحاوره كما كان الأمر في الماضي، طيلة الأربعين سنة التي عاشاها معاً... فأقسى العزلات هي تلك التي تكون في حضور الآخر. بيد أنها واصلت حوارها على الورق وكتبت يوميات شعرية عن مسرح حياتها: المسرح الدرامي الصغير حيث دوّنت أشياءها الحميمية. أتذكّر لوران جالساً بيننا في حديقة مأوى المسنّين حاضراً غائباً. كان يتابع طيران العصافير بإحساس سعيد يتبدى في قسماته، ثم أشار إلى قط وقال: "هذا القط يأتي كل يوم إلى هنا"، ثم ابتسم بنعومة.
كانت ابتسامة رجل بعيد...
وكانت جاكلين تخاطبه كشخص حميمي وغريب...
أتذكر قبلها، عندما توفي ابنه رجل المسرح فرنسوا أبو سالم في رام الله ذهبت إليه، سافرتُ كامل الليل من أمستردام لأصل إلى باريس في الصباح، دخلت عليه، وكان يجلس كئيباً ووحيداً في الصالون الذي هو في الآن ذاته مكتبته، وبعد تقديم التعازي بنحو ربع ساعة التفت إليّ قائلاً: "هل تدري؟ ابني فرنسوا مات".
لحظتها أحسست وبشكل حادّ أني فقدت لوران إلى الأبد، وأن الرجل الذي أمامي ليس سوى خيال. وأن لوران فقد الذاكرة الآنية وهي علامة ألزهايمر...
من عزلة جاكلين مع لوران جاءت هذه النصوص والقصائد التي اتخذت شكل اليوميات، وقد صدّرتها بفقرة للكاتب الإنكليزي جون بيرجر: "النصوص تسير مثل الخيول ومثل البشر لا تنقل خطوها من حادث لآخر وإنما من جملة إلى أخرى، وأحياناً من لفظة إلى أخرى وكل خطوة تعبر مجالاً متشكلاً من المسكوت عنه".
في التسعين من عمرها، كتبت جاكلين هذه القصائد التي نُترجمها إلى العربية.. قصائد هي خلاصة عمر، شذرات أقرب إلى اللُمع في التراث العربي الصوفي أو إلى قصائد الهايكو اليابانية، قصائد فقيرة اللفظ غنية المعنى حيث يتجلى المطلق من خلال اليومي والعابر. فكل ما يمسّ الإنسان هو عميق ولا نهائي كما هي أعماق الإنسان.
مسرح صغير
عن الأشياء اليومية والحميمة
1
ثابتة
بيد أنها كسماء معلّقة
مثل شلال
متدفق
مثل نافورة حجر
ضائعة
ولكن في ظلمة الأزمنة السحيقة
2
من العصفور لا أحب شيئاً
لا الصيحة، لا الدم، لا الريش
ولا الرعشة
من العصفور لا أحب شيئاً
حقيقةً لا شيء أحبه
سوى فكرة العصفور
3
قلت ذاك الرمل
تسرب الرمل
الكثيب من كشف تحت الشمس
صلد وعار
متقلص إلى هيكله الجوهري
إلى الروح
إنه محض صورة
4
خواء، خواء ذو عيون مائية
وفجأة تجد كل شيء بين يديك
ثم لا شيء
سوى هذا الخواء ذي العيون المائية
5
أيتها الزهرة
لا تتفتّحي
6
هذه الكلمة الوحيدة
التي تقول كلّ شيء
الماء...
الماء؟
7
في داخلي
ثمة ذوات
كثيرة
هي أنا
8
أيها الجهل
أيها الجهل البريء
ثقيل مثل بطن ثقيل
وإذ تحصل ذات يوم على المعرفة
فلن تعود لنا أبداً براءة الجهل
ولا عبؤه
9
هارب على إيقاع ضربات الطبل
وفي مركز الحركة
هناك القلب
10
كان هناك طائر
في السماء
وكنا نراه يعبر
11
آه أنت أيها الصمت
مثل طفل محتضناً أمه
في انحسار الموجة وفي الريح الجريحة
حاملاً المطلق على أطراف الأصابع
منفتحاً على تحولات العالم...
12
تسقط مني
وئيدة
في شكل ندف الثلج
عوالم لا يحدها الخيال
13
وحيدةٌ الموجة
هي لا تعي البحر
إنها البحر
نفسه
14
ما أحبّه
هو الغياب
15
العالم بكليته
داخل كلّ منّا
وفي كل مرة
العالم
بكليته
يموت
16
ليقذف الحجر
الأول
ذاك الذي لم يصل
أبداً
17
في باطن يدي
أمسكك خفية
أيا عطر الغياب
18
تعلّم
وجوب ألا تقع في الانتظار
أتعلم
عدم الانتظار
يجب الانتظار فقط
مجرد انتظار
19
سأصرخ ذات يوم
واليوم الذي سوف أصرخ فيه
إن لم يكن قد جاء
فسوف يأتي يوم أصرخ فيه
دون أن أقول شيئاً
سوف أصرخ ذات يوم
20
أسرع نحو لا موعد
وأنا لا أكتب شيئاً لا تمحوه الموجة
أمضي فقط لأقطع الدرب
أمضي وراء أفكاري الباطلة
وراء الرمل
وراء ظلال الشمس الممتدة تحت
خطواتي
تلك التي ترافقني.