تونس التي في خاطري

07 مايو 2017
+ الخط -

 

 

منذ ما يقارب الشهر وأنا أُعمل الخاطر والفكر في حال تونس الحبيبة، فقد شغفت قلبي سؤالاً وتحيراً، ما بال بلاد ثورة الياسمين التي ابتدأت تحريك سواكن الشعوب العربية الإسلامية، تغرق في صمت مطبق وهدوء مريب، ما بال التونسيين يكادون من فرط تحيّرهم لا يرون في بعضهم بعضاً إلا وجه العداوة والصراع؟

في مركز أفكار للدراسات والأبحاث باعتباره بادرة بحثية مغربية شبابية جادة، استقدمنا العديد من الفاعلين الشباب والباحثين التونسيين الجادين، وسنستمر في هذا التقليد، بقصد التواصل وتقريب وجهات نظر جيل الثورة العظيم، إلى جانب رغبتنا الشديدة في فهم الواقع التونسي المركب، والتعلّم وتلمّس المغايرات التي بيننا. جيلنا يؤمن بأننا قابلون أن نتعلم كل شيء، الحب والثورة والديمقراطية والواقعية وبناء الحضارة من جديد. لا حدود لشهية التعلّم عندنا، هكذا تحدّث البوعزيزي في حكاية لم تُرو.

لكن، في كل مرة ألتقي فيها وجوهاً تونسية شابة إلا واستوقفت اهتمامي شدة حنقهم، على واقع ما بعد الثورة عندهم، وشدة اليأس الطافح على ملامح قولهم وتفكيرهم، وفقدانهم الأمل في السياسة والثورة، من دون أن نبالغ، فنقول فقدانهم طعم الحلم الذي جعلهم يتمردون بادئ الأمر. قلق محير جعلني دوماً أتساءل عن الفارق بيننا، عن الحقيقة التي انكشفت حجبها لهم ولم تطّلع عليها رؤانا بعد، في أي ركن يجلس الشاب التونسي اليوم معلناً بدويّ مهيب، بعبارة شاعر الثورة العراقي البياتي:

"قتلت نفسي مرتين،

ضاع مني الخيط والعصفور

بثمن الخبز، اشتريت زنبقاً

بثمن الدواء

صنعت تاجاً منه للمدينة الفاضلة البعيدة".

 

ماذا يحصل حقيقة في تونس اليوم؟

سؤال كبير، الإجابة عنه ستمنحنا جوانب رؤية متعددة للواقع التونسي ما بعد الثورة، وستمنحنا مادة معرفية نحن في أمسّ الحاجة إليها، قصد أن نستوعب ما يحصل في هذا البلد، ونكتشف واقع ما بعد الثورة بكل تعقيداته وخرائط السياسة الداخلية والخارجية فيه. باختصار يهمنا أن نعرف وجه القصة الشاحب، والتجوّل في حدائقها الخلفية المخفية عنا بعد.

كي نعرف جميعاً قدر الصدمة التي أصابت الشباب التونسي من واقع ما بعد الثورة، ونعرف أنهم تجرعوا قناعة الواقعية السياسية بطعم مرارة كبيرة، نحن في حاجة لفهم الذي حصل، وكيف حصل، وبعبارة البياتي مجدداً، فهم هذا الذي يأتي ولا يأتي، وفهم كيف استوعب/ رفض التونسيون واقعهم الجديد؟ كيف تعاملت النخب القديمة والجديدة مع التغيرات المختلفة داخل هذا البلد؟

وبقلق بالغ نُعلي من حشرجة سؤالنا: لماذا ترزح تونس في هذا التيهان السياسي والاقتصادي؟ بعض من الجواب وإن بدا ظاهراً، فإننا نريد الحفر أعمق في أبعاده، نريد أن نعرف أكثر، ونقترب أكثر.

الجميل في قصة تونس أنها كما كانت مفتاح حراكنا، ما زالت مفتاح فهم ما بعد الحراك، الفهم هنا ينبغي أن نضعه بعيداً عن أحكام نجاح الثورة أو فشلها، فالغرض أن نفهم، وأن نساعد تونس في الفهم، فدون شك لن تستوعب تونس ذاتها إلا عبرنا، لأننا نرقبها من الخارج في احترام لمسافة منحتنا إياها هبة الجغرافيا، لكن ما نشترك فيه أكبر من الجغرافيا، لهذا ينبغي أن نلح في ضرورة استيعاب ما يحصل في تونس، بالأخص اليوم، بعد مرور ست سنوات على الحراك، وبعد اعتمال الكثير من الأحداث والخيارات والنجاحات والخيبات داخل هذا البلد.

لن ننكر أننا واعون، في اعتقادنا، نظرياً بما تقتضيه المراحل الانتقالية من رؤية وزمن غير يسيرين ليستوعب الجميع ما حصل أولاً، ثم ليحدد هؤلاء خيارات ما يودّون حصوله. بناء على هذا الاعتقاد أجدني في حديث دائم مع الذات: هل صمت تونس المهول عبارة عن خلوة لترتيب البيت الداخلي مجدداً، وتغيير مواقع كل الأطراف حسب ما تقتضيه المرحلة الجديدة؟ أم أن ما يقع هو غير كل ذلك؟

لا تحضرني بتاتاً أحاسيس اليأس أو الحسرة حول الواقع التونسي، وهذا ما يزيد قلقي، لهذا أخاف أن تنطبع رؤاي بنسب مبالغ فيها من الحلم واليوتوبيا البعيدة عن واقع الأحداث، وما يسير إليه البلد، وخوف أن نرسم في أذهاننا ما يرغب الكثيرون في تكريسه حول رؤانا نحن جيل الثورة، أي الجيل الحالم الواهم في نظرهم، بينما الحلم هبتنا الإنسانية من الله سبحانه، لكننا نعدّ أنفسنا جيلاً واقعياً كذلك وله من بعد النظر ما يعصم مجتمعاتنا مما كانت تسير إليه.

كثيرة هي الأفكار المتزاحمة في ذهني، والأهم من كل ذلك أن يجيبنا شباب تونس، أن يسهموا في رفع بعض اللبس، أن يشركونا في هم الانتقال، أن يشركونا في إكمال سيناريوهات الحلم.

 

 

90B07B72-ECA0-4CEE-AE30-DE797621F18A
عبدالله هداري

كاتب وباحث مغربي يقول: "فعل الكتابة بعد الثورات يعكس قدرتنا أن نوقع تغييراً وأن نغاير معطيات اليأس الذهني/الواقعي، المتحكمة فينا لعقود، ونخلق عوالمنا الممكنة/الجديدة".