تفاهم عون وجعجع.. سلباً على اللبنانيين المسيحيين

11 يونيو 2016

عون في ضيافة جعجع لإعلان التفاهم (18/1/2016/أ.ف.ب)

+ الخط -
أظهرت الانتخابات البلدية التي جرت، أخيراً، في لبنان، عدة حقائق ومتغيرات، كانت كامنةً وطرحت أسئلةً كانت خافتة، أو متخفيةً، لعل أكثرها تعقيداً هو الواقع المسيحي المستجدّ، بعد إنجاز "ورقة التفاهم" بين الإخوة الأعداء. الإنجاز، الحدث، الذي لم تهضمه بعد معظم الفئات والطبقات المسيحية، فالترقّب والتململ السائد في أوساطها أشبه ما يكون بالمرحلة التي تلت انتهاء الحرب الأهلية، مطلع تسعينيات القرن الماضي... عندما استفاق المسيحيون من صدمة "اتفاق الطائف"، وانتبهوا إلى أن "حرب التحرير" حرّرتهم من امتيازاتهم في الدولة اللبنانية، وأن "حرب الإلغاء" ألغت دورهم الفريد في المنطقة العربية... أي بعدما لمسوا حجم الضرر الذي لحق بهم من جرّاء انقسامهم بين سمير جعجع، قائد "مليشيا القوات اللبنانية"، والجنرال ميشال عون، القائد الشرعي للجيش اللبناني آنذاك، ففي ذلك الوقت، ساد الترقب المترافق مع الغضب والإحباط، بعدما زادت الرهانات والتوقعات على أن يخفت وهج "الجنرال" و"الحكيم"، وينفضّ المسيحيون عنهما، لينتجوا قياداتٍ بديلةً في ظل الجمهورية الثانية، والتوافق الدولي.
ولكن، على الرغم من الخسائر الفادحة التي أحدثها الرجلان، ظلّ الشارع اللبناني المسيحي متمسكاً بهما... كنقيضين! فيما برزت لاحقاً أصواتٌ معتدلةُ تدعو إلى التوافق بينهما، لكي تستعيد الطائفة بعضاً من الفاعلية التي كانت عليها، ولتحافظ على وجودها في ظل تسونامي الدم الذي يجتاح المنطقة... وربما هذا ما ساعده للوصول إلى مبتغاها، وإرساء "ورقة التفاهم" الغامضة!
ما نراه، اليوم، ليس خداعاً ومواربةً وصفقات آنية...فالدلائل تشير، بالفعل، إلى أن الطرفين نضجا إلى درجةٍ جعلتهما يغلِّبان منطق مصلحة المسيحيين على منطق المصالح الشخصية الضيق... إنما، هل كان التوقيتُ مثالياً لإعلان خطوةٍ كهذه؟ أو، هل الوضع المسيحي مهيّأ لاستنهاض عصبيته وخطابه الفئوي، في خضم هذا الإعصار الذي يعصف بالمنطقة؟ هل للمسيحيين القدرة على احتمال تداعيات الانتباه إليهم طرفاً منافساً على حلبةٍ تغرق بالدم يوماً بعد يوم؟ ويبقى السؤال الأهم: هل اقتربت رؤية الفريقين، المصيرية، إلى درجةٍ يستطيعان معها التعايش فترة طويلة... كالحاصل بين جناحي الطائفة الشيعية، حركة أمل وحزب الله؟
صحيح أن عون وجعجع سعيا، منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلى توحيد القوى المسيحية تحت سقف واحد، وكان هاجسهما حماية الطائفة في منطقةٍ تعيش ضمن فوالق زلازل فائقة النشاط... لكن، وبغض النظر عن تمتع الاثنين بكامل مواصفات الديكتاتور ومؤهلاته.

وبغض النظر عن أن لب صراعهما كان على التفرّد بالسلطة والاستئثار بالقرار... كان لديهما مشروعان متناقضان، فالجنرال كان يسعى إلى استعادة أمجاد "الجمهورية الأولى" التي انفرط عقدها، بعد فيضان مشكلات الجوار، وأجنداتهم ومطامعهم في أثناء الحرب الأهلية... وكان عاجزاً عن تحقيق أدنى إنجاز بشراذم الجيش المنقسم الذي كان يتولى قيادته، خصوصاً إنه كان يخضع لسلطة رئيس الجمهورية، أمين الجميّل، المختلف، أداءً ورؤية ومشروعاً، عنه وعن غريمه "الحكيم" الذي كان يعمل، على طريقته، لاستئناف "توحيد البندقية المسيحية"... إنما بهدف الانفصال، وليس بهدف استعادة الدور الماروني! وذلك بعدما أدرك، مبكّراً، أن الجمهورية الأولى أصبحت مجرد وثيقة للتاريخ. وقد ذهب بعيداً في مشروعه التقسيمي، بعد نجاح انقلابه على رئيسه إيلي حبيقة، بحيث حصّن منطقته عسكرياً، وأخضعها للإدارة الذاتية، في الوقت الذي كانت مليشيا نبيه بري الشيعية ومليشيا وليد جنبلاط الدرزية تتصارعان، وتمهدان الطريق للدخول السوري "الثاني" إلى بيروت الغربية. وهكذا، خلال أقل من سنتين، تحول جعجع إلى رقم صعب في بازارات التسوية التي نشطت في المنطقة نهايات الثمانينيات، لا بل كاد أن يعلن الانفصال، أو يفرض مشروعه الفيدرالي فرضاً، لولا التطور الدراماتيكي، بعدما كُلِّف ميشال عون بتأليف حكومةٍ عسكريةٍ انتقاليةٍ، إثر تعثُّر انتخاب رئيس للجمهورية! وهنا، لا بد من السؤال: ما هو موقع أمين الجميل، اليوم، من واقعة "ورقة التفاهم"؟ وما هي قدراته على المناورة والاستفادة من الوضع القائم؟ إذا ما أخذنا بالاعتبار أنه، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، هو من أشعل فتيل حربَي التحرير والإلغاء.
لم يفصح أمين الجميل عن الأسباب الفعلية التي دفعته إلى تعيين ميشال عون رئيساً لحكومة عسكرية انتقالية عام 1988. وقد اختلف المراقبون والمحللون على مراميه. ربما كانت محاولةً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا الدولة التي أنشئت على قياس المسيحيين، قبل نصف قرن، أو ربما سعى إلى ضرب أكثر من قوة مسيحية وغير مسيحية ببعضها، بغية خلط الأوراق. ففي تلك الفترة، كان المسيحيون أمام مشروعين متناقضين، لم يكن لآل الجميل أي دور فيهما، بعدما خسروا معظم رصيدهم المليشياوي والشعبي، قبيل غروب الحرب الأهلية. الحرب التي كانوا نجومها في سنواتها الثماني الأولى، لا بل كانوا من أشعلها... وهذا ما يدفع خبثاء إلى القول إن قرار أمين الجميل تكليف ميشال عون لم يكن سوى عمل انتقامي من عدة جهاتٍ عرقلت مسيرته في رئاسة الجمهورية... فلقد أهدى لقائد الجيش، الحالم، مفتاح حلمه باستعادة الدور المسيحي. الدور الذي كان قد تحوّل إلى حلمٍ مغلف بأسطوريةٍ، ترتكز شعاراتها على الأفكار "الفينيقية" للشاعر سعيد عقل! الحلم الذي دفعه إلى مغامرة الاصطدام بالجيش السوري... وإلى خطيئة مواجهة مشروع جعجع الانفصالي، في الوقت عينه، ثم وصوله إلى الذروة بمعارضته "الانتحارية" للتوافق الإقليمي والدولي الذي نتج عنه "اتفاق الطائف"، حتى انتهى به الأمر لاجئاً في السفارة الفرنسية، وبغريمه "الحكيم" سجيناً في سجن وزارة الدفاع. وكانت رصاصة الرحمة على الدور المسيحي الفاعل! الدور الذي أنتج حالة مميزة، وإشكالية، في المشرق العربي، استمرت أكثر من قرن.
كان الرجلان صادقين ومخلصين لمشروعيهما، وربما لو كانا يتحليان ببعض الخبرة السياسية التي من المفترض أنهما يمتلكانها اليوم، لجنَّبا المسيحيين خسائر باهظة كثيرة، في بلدٍ ما زالت نخبه السياسية عاجزةً عن الخروج من منطق المحاصصة الطائفية، المتخلفة، في الحكم. وهنا، السؤال يطرح نفسه: إن كان الرجلان ما زالا صادقين ومخلصين لمشروعيهما... على ماذا التقيا إذاً؟ وإن لا... ما الذي تغير؟ أو ما هو الطرح البديل عن المشروعين اللذيْن بنوا شعبيتهما وسلطتهما على أساسهما؟ ولنفترض أن التناقض بينهما تخفّف، ووصل إلى حدود "تنظيم الاختلاف لأسبابٍ وجودية"؛ كالحاصل بين "أمل" و"حزب الله"... هل من الحكمة أن يتكتل المسيحيون، كمكوِّن طائفي، في هذه المرحلة؟ أو ما هي الخطوة التالية؟ هل سينضمون إلى أحد المعسكرين الإسلاميين المتناحرين في المنطقة؟ إن لا، هل لديهم القدرة... أو سَيُسْمَح لهم بلعب دور القوة الثالثة في هذا الخضم الدموي؟ في حين أن الزعيم وليد جنبلاط الذي يتبعه الدروز كإمام معصوم، يهرب من أي موقفٍ أو قرارٍ واضح... ويسمح، لا بل "يخترع"، أصواتاً معارضةً ضمن بيئته، لكي لا تدفع طائفته ثمن خياراته.
المفارقة أن ما كان يعتبر حكمةً في أوائل التسعينيات، بالنسبة للمسيحيين، قد يكون تهوّراً في هذه المرحلة الخطرة التي تمر فيها المنطقة! وقد يكون من الأفضل أن يشتدّ التمايز داخل الطائفة، حتى تنجلي غبار المعارك الدائرة، وأن لا تطفو عصبية مسيحية "موحَّدة" إلى السطح.


1E32843D-060D-45BB-9211-26A840C9A18E
علي نصّار

كاتب لبناني