يسري اعتقاد خاطئ أن ماركس كتب عن تصوّره لليوتوبيا الشيوعية وكيف ستكون حالها في المستقبل بعد انهيار الرأسمالية. في الواقع، سخر ماركس من محاولات تصوّر المستقبل الشيوعي، وكان عمله الضخم "رأس المال" (1867) تحليلاً اقتصادياً وسياسياً لنظام الإنتاج الرأسمالي وكيف وصل الحال إلى ما كان عليه في القرن التاسع عشر مع الثورة الصناعية والتغييرات التي طرأت على نمط الإنتاج وأثره على الطبقة العاملة. استنتج ماركس أن العمل المأجور هو وحدة التجارة الأساسية في النظام الرأسمالي، وأن فائض قيمة عمل العامل التي لا تدفع له ويكتسبها صاحب العمل هو اضطهاد للعمال يخلق التمايز الهائل في الثروات.
لكن التطور التكنولوجي المتصاعد بسرعة في مجال الأتمتة (Automation) خصوصاً مع الاهتمام النشيط حالياً في أبحاث الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) يضعنا في انتظارٍ لمستقبلٍ لا يخلو من الَقلَق. ما الذي سينتج عن الأتمتة متصاعدة النمو وما الأثر الذي ستلحقه بالعمال وبمفهوم العمل نفسه؟ هل سيتحسن الإنتاج لدرجة أن يستغنى عن العمالة الإنسانية تماماً؟ هل سينتج عن ذلك رفاهية متزايدة وثروة مزدادة ومن سيستفيد منها؟ من ناحية أخرى، يضعنا الوضع البيئي الراهن لكوكب الأرض أمام تهديد حقيقي؛ معدلات ارتفاع غير مسبوقة للحرارة، تغيرات في الظروف الجوية المعتادة لبيئات معينة، وازدياد في عدد الكوارث الطبيعية المدمرة. يبدو السؤال هنا أيضاً متعلّقاً بمواجهة الكارثة البيئية المرتقبة: من الذي سيتأثر ومن الذي سينجو؟ هل سيؤثر هذا سلبياً على الحضارة الإنسانية وهل يمكن إيقاف التأثير؟
ينطلق بيتر فريز في كتابه "أربعة احتمالات مستقبلية: الحياة بعد الرأسمالية" Four Futures: Life After Capitalism (دار فيرسو، 2016) من هذين الواقعين القائمين حالياً (الأتمتة والتغير المناخي) وما سينتج عنهما في المستقبل ليحاول استشراف أربعة سيناريوهات مستقبلية، أو كما يكتب في مقدمة الكتاب: "التفاعل بين هذين الاحتمالين يجعل من لحظتنا التاريخية غامضة وغير مؤكدة ومتقلبة، مليئة بالأخطار والوعود على حد سواء". يعكس هذان الإحتمالان خوفاً إنسانياً راهناً بحسب تعبير فرايز: التغير المناخي (أي الخوف من امتلاك القليل جداً) والأتمتة (الخوف من امتلاك الكثير جداً).
ينطلق فرايز في تحليله من أن الرأسمالية ستنتهي، ويستدعي مقولة روزا لوكسيمبورغ الشهيرة أن المجتمع البرجوازي يقف أمام خيارين، إما الإشتراكية أو الهمجيّة. المستقبل غير مؤكد ولا يرغب في إعطاء تأكيد لأي من سيناريوهاته التي يصفها "بالخيال العلمي الإجتماعي"، بل الهدف هو فهم الحاضر لمحاولة استشراف السيناريوهات المستقبلية المحتملة التي قد نصل إليها، أو بمعنى آخر كما يكتب:" قراءة الآثار السياسية لعدة عوالم متخيلة".
يأتي التطور في الأتمتة ليضع احتمالية تخفيض الحاجة للعمل الإنساني بشكل كبير. حدث هذا بالفعل ولا زال يحدث منذ الثورة الصناعية وحتى الوقت الحالي، حيث تم الاستغناء عن الكثير من الوظائف التي كان يؤديها العامل الإنساني لصالح آلات ميكانيكية ضخمة أو روبوتات صغيرة الحجم، والأمثلة كثيرة: هناك الآن روبوتات صغيرة تقوم بكنس المنزل، وهناك روبوتات على هيئة بشرية تستقبلك في المستشفيات في اليابان وكوريا، وسيارات تقود نفسها. وفي عام 2014، قامت شركة استثمارات تدعى "Deep Knowledge" في هونج كونج بتعيين برنامج كمبيوتر على مجلس إدارتها يقوم بالتصويت على القرارات كغيره من الأعضاء البشر.
يشير فرايز إلى بحث لجامعة اوكسفورد يقول أن 47% من الوظائف الحالية في أميركا معرضة لتهديد الأتمتة، وهناك العديد من الأمثلة أيضاً: قد يقوم برنامج بمراجعة الوثائق القانونية بشكل أدق من موظف بشري، وقد يُستبدل موظفو مراكز الإتصالات ببرامج تفاعلية، وقد يستبدل المزارعون بآلات روبوتية تزرع البذور وتحصد الفاكهة بفعالية أفضل وأسرع من الأيادي البشرية، وقد يستبدل موظفو مخازن شركة أمازون بروبوتات تؤدي المهمة بشكل أسرع وأدق، وحتى الطابعات ثلاثية الأبعاد قد تؤدي مهمة عمّال البناء لتطبع المنازل والمكاتب بدلاً من العمال (كما حصل في دبي مؤخراً). يقول فريز أن هذا التطور يمثل دينامية رأسمالية متطورة: فعندما تزداد القوة التنظيمية للعمال ومطالباتهم بزيادة الأجور، يزداد الضغط على الرأسماليين لإستبدال البشر بالروبوتات. في السابق، كان هذا مكلفاً للغاية، لكننا كما يقول فريز في وضع مختلف عما كانت عليه الرأسمالية الصناعية في أوائل القرن العشرين. مع التطور التكنولوجي، أصبح إنتاج الروبوتات أسهل وأرخص، وإحتمالية الإستغناء عن اليد البشرية أكبر.
لكن ما الذي يعنيه هذا؟ هناك احتمالان: ستوفر الروبوتات نوعية حياة أفضل وتفسح المجال لوقت أكبر للراحة للجميع، أو قد ينتج عنها بطالة متزيادة وثراء أكثر لأصحاب رؤوس المال. لكن فرايز يجادل أن العوائق الحقيقية الحالية أمام سوق العمل سياسية وليست تكنولوجية، ويصرف التحاليل التقليدية التي تمرر العملية وكأنها تكنولوجية محضة ويقول أنها في الواقع خيارات سياسية واجتماعية، فقلة الوظائف حالياً ليست نتيجة التطور التكنولوجي بل لفشل السياسيات الحكومية في معالجة المسألة. لا يهمل فرايز العلاج الإقتصادي التقليدي للمسألة (زيادة الطلب عن طريق تخفيض نسب الفائدة واستثمار الحكومة في خلق الوظائف بالإضافة لرفع المعدل الأدنى للأجور)، لكنه قلق من أن استخدام سيناريو الروبوتات من قبل اليمين والوسط السياسي هو لتشتيت الانتباه عن مشاكل البطالة الراهنة.
بخصوص تغير المناخ، يضع فرايز السؤال الرئيسي كالتالي: من الذي سينجو من هذا التغير إذا ما كانت النتيجة كارثية؟ سيزداد الصراع على المساحات والأمكنة الملائمة للعيش كلما تدهور الوضع، ومن سيكون قادراً على تحمل كلفة الحلول؟ قد يكون الجواب أن الحلول ستكون بأيدي الأثرياء فقط. تبدو مسألة اهتمام أثرياء العالم بالبيئة مسألة حفاظ على نوعية حياتهم. مؤخراً فقط نشرت مجلة النيويوركر تحقيقاً ضخماً عن هواية جديدة للأثرياء، وهي مناقشة وسائل البقاء في حالات وقوع كوارث طبيعية، بعضهم بالفعل بدأ ببناء الملاجئ الضخمة المزودة بكل وسائل البقاء والرفاهية على حد سواء. قد يبدو الأمر وكأنه هواية فقط، وهو ما يعتبره بعضهم كذلك، لكن هذا مؤشر أيضاً على أن ما كتبه فريز إن تحقق: في حالة نهاية العالم كما هو عليه الآن، ستتضرر الطبقة العاملة بالدرجة الأولى، وسيكون البقاء للأكثر ثراء.
يفترض المؤلف التالي قبل انطلاقه في التحليل: كل الحاجة إلى العمل يمكن الإستغناء عنها، ويمكن للبشر العيش في حياة من الراحة والرخاء التام بينما تقوم الروبوتات بالعمل. يضع فرايز الأتمتة كأمر ثابت أمام احتمالات الأزمة البيئية والوضع السياسي الطبقي كمتغيرات، ليضع أربعة سيناريوهات مستقبلية يعتمد الوصول إليها على التفعل بين العوامل التي وضعها.
تعيد مسألة الأتمتة الجدال الأزلي حول قيمة العمل وأهميته بالنسبة للإنسان. هل هو حاجة للبقاء أم خيار يعطي معنى لحياتنا؟ في الجزء الثالث من "رأس المال"، يميز ماركس بين عالمين، "عالم الحاجة"، حيث نحاول تلبية رغباتنا وإدامة حياتنا بالعمل والإنتاج الضروريان نتيجة الظروف التاريخية التي نعيشها، بصرف النظر عن الطبقة الإجتماعية أو الإقتصادية، و"عالم الحرية"، حيث الهدف الأسمى هو ارتقاء الإنسان بعد التخلص من عالم الحاجة.
أي أن "الحرية تبدأ بعد أن ينتهي العمل". مستقبل فرايز الأول هو "الشيوعية"، يوتوبيا ما بعد الرأسمالية والتقسيم الطبقي وبعد الحاجة إلى العمل بالأجر. من الضروري، يشير فرايز، أن نتخيل معنى العيش في عالم لا نقوم بالتعريف فيه عن أنفسنا من خلال العمل الذي نكتسب منه أجراً لكي نتصور هذه اليوتوبيا، رغم صعوبة ذلك عند الكثيرين. في حين تحقق ذلك، لن يكون العمل "عملاً" بالمفهوم الذي نعرفه، مرتبطاً بأجر ضروري للحياة، بل هو حرية يقررها كل فرد ليسخر حياته لما يريد أن يفعل، دون أن يقلق على قوته اليومي. وإذا ما تحققت الأتمتة الكاملة لتؤدي الروبوتات العمل الضروري بدلاً من الإنسان، في ظل مساواة طبقية كاملة ووفرة للمصادر الطبيعية، سنصل إلى هذا السيناريو.
لكن ماذا لو كانت مصادر الحياة نادرة مع وجود مساواة طبقية؟ السيناريو الثاني المستقبل هنا هو "إشتراكي"، ستبقى الحاجة للعمل لتأمين احتياجات البشرية ضمن حدود المتوفر من المصادر. يشير فرايز لتقرير للأمم المتحدة تشير فيه أنه على الدول العمل سريعاً خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 90% بحلول سنة 2050 لتجنب حلول كارثة بالأرض لا يمكن اصلاحها. أمامنا وقت قصير إذاً لتجنيب كوكب الأرض نقطة اللاعودة. الإفتراض في هذا السيناريو هنا أنه من الصعب تجنب الكارثة البيئية القادمة، لذا على البشرية العمل ضمن حدود الموجود. والسؤال الرئيسي هو من سيقوم بتمويل الجهود اللازمة؟ يشير فرايز إلى أن الحلول موجودة أصلاً الآن لو كان باستطاعتنا التغلب على العوائق السياسية. الحل يكمن في اعادة تشكيل حياتنا بما يتؤائم مع البيئة وبما تسمح به الأتمتة، من ناحية السكن والصناعات والإستهلاك.
في حال لم تتحقق المساواة، وكان المجتمع طبقياً قاسياً مع وجود وفرة في المصادر، سيكون المستقبل "إيجارياً" (Rentism). يركز بيتر في هذا الفصل على "حقوق الملكية الفكرية" , والقوانين التي تتحكم بها. المستقبل هنا ديستوبيا تتحكم فيها النخبة الإقتصادية بالتكنولوجيا القادرة على تحقيق الوفرة.
يتحث فرايز في هذا الفصل عن السيناريو الذي تتحكم فيه النخبة الاقتصادية بتكنولوجيا الأتمتة للإبقاء على نفوذهم على بقية البشر. تشمل حقوق الملكية البرمجيات واللوغاريتمات والمخطوطات الطباعية والمعلومات. النقطة الأساسية هنا هي أنه وعلى عكس الأملاك المادية حيث التحكم يكون في امتلاك الشئ، في الملكية الفكرية يكون التحكم في "استنساخ الأنماط".
على سبيل المثال، إذا ما وصلنا إلى مرحلة يمكن فيها طباعة أي شئ باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد، ستتكون الطبقة الحاكمة الجديدة من من يتحكم بأكبر كمية من حقوق ملكية النماذج والمخططات الطباعية، وعلى الباقي دفع إيجار لهؤلاء. هناك العديد من الأمثلة، من بينها القضية التي رفعتها شركة مونسانتو (وربحتها) على مزارع أعاد زراعة بذرة من بذورها المعدلة جينياً بدل من شراء بذور جديدة أخرى، ومنع Apple مستخدمي جهاز اختراق جهاز الـiPhone لتعديله على هواهم. الفكرة هي أن يملى عليك كيفية استخدام الشئ الذي تملكه ودفعت ثمنه والتحكم بذلك، ومنع أي احتمالية لخسارة الشركة أرباحاً مستقبلية. مع مرور الزمن في هذه الديستوبيا، ستزداد قائمة الأشياء التي على الناس دفع ثمن مقابل استخدامها، ولن يقدروا على اللحاق بالكلفة المتزايدة.
لكن المستقبل المرعب فعلاً هو الذي يخصص له فرايز الفصل الرابع والأخير في الكتاب، "الإبادية" (Exterminism). يطرح فرايز السؤال التالي: ماذا لو كانت المصادر الطبيعية نادرة جداً، واكتفت النخبة الحاكمة بالإعتماد على الأتمتة والروبوتات التي يتحكمون بها لإنتاج السلع وتقديم الخدمات؟ لا حاجة للطبقة العاملة إذاً، هم فائض بشري والأسهل والأوفر التخلص منهم تماماً، وجودهم خطر على نجاة الطبقة الحاكمة وعلى المصادر الطبيعية القليلة المتبقية. قد يبدو هذا السيناريو خيالياً، لكنه حصل بالفعل للأحصنة. يشير فريز إلى بحث للإقتصادي واسلي ليونتيف لاحظ فيه أنه بعد التقدم التكنولوجي وبدأ العمل بالجرارات الزراعية، انخفض عدد الأحصنة في الولايات المتحدة من 21.5 مليون حصان في عام 1990 إلى 3 ملايين حصان في عام 1960.
لحسن الحظ، يقول فرايز، أن الأثرياء الآن لديهم حد أدنى من الأخلاق يصعب فيه الوصول إلى هذا الحل النهائي فوراً، خصوصاً مع توفر المصادر الطبيعية الآن. لكنه يشير بذكاء إلى ما قاله صاحب شركة كارتييه يوهان روبرت في مؤتمر للفاينانشيال تايمز عام 2015، وهو أن احتمالية اندلاع ثورة بين الفقراء "هو ما يبقيني مستيقظاً ليلاً".
بدأ الأثرياء بالفعل بالخطوة الأولى، وهي الإختباء من الفقراء. تبنى العديد من المدن الخاصة الآن والمجتمعات السكنية المحمية بشدة التي هدفها الوحيد هو فصل الأغنياء عن بيئة الفقراء. يحدث هذا الآن في نيجيريا، حيث يبني أثرياء لبنانيون مدينة جديدة هرباً من السكان النيجيريين الفقراء، أو حتى نشاهده في القاهرة حيث تبنى التجمعات السكنية الجديدة هرباً من المدينة القديمة، وفي غيرها من المدن.
بشكل آخر، هي ملاجئ محمية تمنع فيها الحركة حتى على الفقراء (الذين لا يستطيعون تحمل كلفة السفر من بلادهم أيضاً)، بينما يتحرك الأثرياء بحرية في أي مكان يريدونه. إذا ما أضفنا احتمالية الأتمتة والتحكم بها، بإمكاننا تصور المستقبل المرعب الذي ينتظر معظم سكان الكرة الأرضية. عندها، يصبح بإمكان الأثرياء الإعتماد على الروبوتات ليس فقط لتأمين السلع والخدمات، بل حتى لقمع وإبادة بقية الناس عن بعد دون حتى التواجد لمواجهة بشاعة لحظة القتل، وهو ما يحدث الآن مع استخدام الولايات المتحدة للطائرات الروبوتية في عمليات القتل عن بعد.
يبني فريز سيناريوهاته المستقبلية ببراعة مستحضراً الكثير من الأحداث التاريخية، وعلى أمثلة عديدة من أدب الخيال العلمي والسينما في تصوره للمستقبل. يقول فريز أنه وضع هذه السيناريوهات الأربع لأن لا شئ يحدث بصورة أوتوماتيكة، والعاتق يقع علينا لكي نحدد الطريق إلى المستقبل المرجو. المفقود من الجدال الحالي حول حاضر الأتمتة والتغير المناخي بحسب فرايز هو السياسة، وبالدرجة الأولى الصراع الطبقي.
السياسة هي الطريق، والطريق صعب ولن يخلو من عوائق، فليس من مصلحة النخبة التنازل عن مصالحها على طبق من ذهب. علينا إيجاد الحلول. تتجاهل الرؤى الإقتصادية الرسمية المطروحة حول الأتمتة والتغير المناخي واقع المجتمع العالمي الذي نعيش فيه حالياً: الرأسمالية وطبقتها وعلاقات الملكية. لا يمكن فهم هذه المسائل بحسب فرايز دون محاولة فهم أزمة الإقتصاد الرأسمالي. عندما نضع هذا في صلب السياق، يمكننا فهم أن الحل سياسي بالدرجة الأولى، لتجنب مستقبل كابوسي بالفعل.