اليسار وأين ذهب العطشان؟

14 ديسمبر 2017
+ الخط -
من يومي وأنا أخاف من الميكرفون، بسبب شعورٍ ما، قد يكون منه أنه يضخّم صوتي، وأنا أخاف حتى من فكرة تضخيم الصوت، حتى في الحمام مع نفسي، فما بالك وأنا أمام حشد من الجماهير ينتظر مني أن أخلّص فلسطين من أنياب إسرائيل، أو على الأقل أحرّر المسجد الأقصى. كان تعييني في مدرسة إعدادية في المنيا أمين مكتبة يجعلني بعيدا عن الاحتفالات، وعن الجماهير والحشود. فقط أوقّع في دفتر الحضور، وأجري إلى الشمس في الشتاء، أو أدخل إلى مكتبتي، لكي أبتعد عن أي كرنفال، إلا أن موت الشاعر فؤاد حداد في بداية الثمانينيات جعل ناظر المدرسة (وكان يكتب الشعر العمودي ولا يحب اليسار، وكان اسمه صلاح نصر، شفاه الله) جعله يقتحم المكتبة، ويقول لي بعشم وود: "ما تقول كلمتين بكرة لإذاعة المدرسة في روح عمك فؤاد، وهم مش حبايبك برضه يا أبو عبيد؟". وكأن الرجل، بابتسامته ومودته، يحاول أن يعرف مكنوناتي، فقلت له باسما: "حاضر". وفي الصباح التالي، قلت الديباجة العادية عن موت الشاعر وعن مسحراتي رمضان.. إلخ، وختمتها بكلماته المشهورة "ولا العطشان له ميّه إلا فلسطين"، وانصرفت خجلا إلى مكتبتي. بعد حصتين، جاءني صلاح ناصر باسما، وهو يقول: "تحنّوا لبعض يا أولاد الإيه".. وكان يقصد أنني على الأقل يساري، وأنني كتمت ذلك، حتى قلته بعد ما طلب مني ذلك، وأنني ختمتها، ككل يساري، بالمقولة المعهودة "ولا العطشان له ميه إلا فلسطين"، فابتسمت، وهو انصرف إلى الفصول، ولم أمسك ميكرفون الإذاعة مرة أخرى، حتى أُحلت للمعاش من شهور.
أمس، بعد قرار ترامب بشأن القدس، الهمجي وغير المسؤول، تأملت خمسا وثلاثين سنة مرّت من دموع اليسار على القدس، وتأملت مساجينهم من الطلاب في الجامعات المصرية، وكلمات شيوخهم في الميكروفونات والكوفيات الفلسطينية، وهي على أكتاف الفتيات والشباب والشيوخ، وتخيلت الحشود التي انطفأت فجأة بعد مجيء عبد الفتاح السيسي منقلبا، ليس على "الإخوان المسلمين" فقط، بل على الثورة أيضا، وعلى أي مظاهرة، وكمّم أفواه النقابات وأمّمها بالكامل، حتى اتحاد الكتّاب صار مكانا فقط لصرف المعاشات، فتحسّرت، أين راح اليسار؟ بل كيف تم تدجينه بكل هذه السهولة، بعد كل هذه السنوات والتضحيات؟
شيء مثير للدهشة والتأمل والألم. أين ذهب زين العابدين فؤاد؟ وكيف صمت تماما ابن أبو العز الحريري عضو البرلمان من سنة تقريبا، وكان والده أبو العز الحريري مع البدري فرغلي لا يفارقان الحشود، ولا الكوفية الفلسطينية؟
أين ذهب اليسار بعد أربع سنوات من القمع؟ أين ذهب حزب التجمع وكوادره بعد رحيل رفعت السعيد؟ بل أين متحدثه الإعلامي وتصريحاته النارية.
دعنا بالطبع من مصطفى بكري، فهو يشبه الميكروفون الذي كنت أخافه من خمس وثلاثين سنة، ولم أقربه ثانية، حتى أحلت للمعاش من دون أن ألمسه ثانية. دعنا من ذلك كله، فأين اليسار (المعرفي) من كل مما يحدث. أين راح مترجموه ومنظّروه وكتاب قصصه وشعراؤه وكتاب رواياته ونقاده.
لا تقل إن كل هذه الأعداد المهولة قد تم استيعابها داخل دولاب النظام الحالي، فتلك سذاجة مفرطة. قل تعبوا، قل خافوا، قل كبروا، قل هاجروا وتوزعوا في المنافي، قل صمتوا من قلّة الحيلة والخوف أيضا، قل مكيدةً في "الإخوان" لم يعد يهمهم شيء من أمر الوطن سوى سلامة النهايات من أعمارهم. قل أي شيء. ولكن ها هو ترامب، بعجرفته، يدعوهم في أول الشتاء كي ينكأ لهم تلك الجراح القديمة، علّهم يتذكرون ذلك المقطع الأثير من حبيبهم فؤاد حداد: "ولا العطشان له ميه إلا فلسطين". ننتظركم بميكروفونات حديثة، وقد نفكر في شكل جديد للكوفية، تليق بالمخاوف التي نقدّرها إنسانيا.
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري