المغرب كديكور للسينما العالمية: طَمْس بصمة المكان

19 اغسطس 2020
جينا برانس ـ بايثوود: غياب الصلة بين الشخصيات والمكان (ألبرتو إي. رودريغز/Getty)
+ الخط -

تتحرّك عين الكاميرا على جدار مشقّق غامق، قبل دخول البطلة إلى الـ"كادر" بقَصّة شعرها العصرية. تُتابع سَيْرها في زقاق ضيّق، كما في The Old Guard للأميركية جينا برانس ـ بايثوود. تُهيمن الصُّفرة على المكان، في لقطاتٍ تجري في أزقّة خلفية. دروب مترَبة، ومَشاهد أطفال من القرون الوسطى. بحسب الفيلم (2020)، تتحرّك المخابرات الأميركية بأريحيّة بين مراكش وجنوب السودان. لا حدود ولا حواجز.

يبدأ الفيلم الإسباني ADU لسلفادور كالفو (2020) بنزاع على سياج يفصل بين الجنة والجحيم. سياج شوكيّ عال ومُكهرب يفصل بين المغرب ومدينة مليلية المحتلة منذ 5 قرون. على السياج مهاجرون أفارقة عالقون. هنا وقعت المصيبة الأولى: نزاع على حدود أرض جاذبة وأرض نابذة. خطوط الفصل هي نفسها خطوط تماس شمال المغرب. في بطن السياج، منازل واسعة مُضاءة. في واجهته، خيام بلاستيكية في غابة تعجّ بأفارقة جياع، ينهش القرّ أجسامهم. يمرضون، فتعالجهم طبيبة إسبانية، بينما لا يظهر للمغاربة أثر في بلدهم. حتى حين يتّجه بطلا الفيلم إلى الشاطئ ليسبحا إلى الضفّة الأخرى، لا أثر للمغاربة.

كيف يبدو المغرب كفضاءٍ لمخرجين إسباني وأميركية؟

يبدو مُقفراً من أصحابه. في الفيلم الأميركي، مقاتلون خارقون تجمعهم أخوّة الدم، كـ"فرسان هيكل" العصر الحديث. أبطال عابرون للـ"زمكان". ينطلقون من مراكش إلى أفغانستان للتعامل مع عسكريّات من الـ"مارينز"، يُحرّرن نساء من المتشدّدين. جندية تُسعفُ متشدّداً، فيقتلها كي لا تلمسه. إنْ كان هناك ما سيبقى في الذاكرة من هذا الفيلم الأميركي، فهو أنّ المغرب كان مهداً لميلاد أول بطلة سوداء خارقة في السينما، مُناضلة نسوية اسمها نيل فريمان. في مراكش، مكياج البطلة لا يتأثّر لا بطقس جنوب المغرب ولا بغباره. تتصرّف بحرية لا يضمنها المكان. تشرب العصير في ساحة "جامع الفنا"، في قلب مراكش، وهي تقرأ جريدة "نيويورك تايمز". لا صلة فعلية بين الشخصيات والمكان.

 

 

بالنسبة إلى الإسباني، يتلخّص المغرب بالحشيش والمهاجرين السرّيين. إلى جانب السياج، يشرح ضابط إسباني لزميله الرسالة التي يحملها هذا السياج للأفارقة: "ابقوا في بلدانكم، وحلّوا مشاكلكم". السياج عَتَبة مكانية وزمنية، تؤكّد: "لا بُدّ أنّ أفريقيا بحاجة إلى معجزات لتنتصر على مشاكلها".

المكان عنصر من مثلثٍ وضعه أرسطو لقوانين الحكي: وحدة الحدث والمكان والزمن. نبعت حبكة أفلام مصرية كثيرة من الفضاء المغلق للحارة، ومن زقاق ضيق بلا مَخرج. هذه طوبوغرافية المكان الذي يتحرّك فيه البطل. حتّى عندما يرحل البطل عن الحارة إلى أمكنة راقية، يظلّ يحمل وشم المكان الذي جاء منه، وقد يُعيَّر به.

يُمكن تفسير نفسيات الشخصيات ومصائرها بالأماكن التي جاءت منها. قاعدة السياق "أساسية في التأويل والتفسير" ("موسوعة لالاند"، ص. 219). السياق هو الزمان والمكان. في هذين الفيلمين، يظهر المكان المغربي باهتاً. حين تمضي سيارة الإسباني في طريق طويلة، لا تمرّ بجانبها سوى سيارات مغربية عمرها 30 عاماً. عندما صَوّر كلينت إيستوود "القناص" (2014) في المغرب، والأحداث تَجري في الفلوجة (العراق)، بدا التشابه المكانيّ غريباً. حينها، تساءل معلّقون مغاربة: كيف تدلّ أحياء مغربية على مَشاهد واقع عراقي، رغم أنّ المغرب لم يعش حرباً منذ أكثر من قرن؟

ماذا يستنتج المتفرّج حين يرى تصوير المباني المخرّبة والسيارات القديمة والأمكنة المتهالكة؟

 

 

في "الحارس القديم"، تنتقل البطلة من فندقها إلى حيّ شعبي مُترب ومزدحم. تتحرّك بين مكان مُرفّه وآخر بائس. تقع مطاردات بلا حسيب ولا رقيب، كأنّ الشوارع خلاء، والمغاربة لا وجود لهم. في الدقيقة الرابعة، تلتقط شابّة صورة لصديقتها بواسطة هاتفها. تُدرك البطلة أنّها تظهر في خلفية الصورة. تقترح على الشابّة أنْ تلتقط لها صورة أفضل. تُمسك الهاتف وتمسح الصورة التي تظهر فيها. تأكيداً على المحو، يتمّ استخدام موسيقى تصويرية مرتفعة لطمس الأصوات المنبعثة من المكان. هذا التوجّه إلى التغييب راسخٌ منذ "كازابلانكا" (1942) لمايكل كورتيز. فيلم دعائيّ قدّم إشهاراً كبيراً للمدينة، لكنّه لم يُصوَّر فيها أصلاً.

في كازابلانكا، زحام وضجيج وإيقاع مرتفع. هذا يؤثّر على التفكير والنظرة إلى الأفلام، وفي الجُمل التي تُكتب. صارت الجُمل أقصر وأحدّ. يؤثّر تغيير الأمكنة على الكتابة. يجعلها مختلفة.

في الأفلام المُصوّرة في المغرب، نادراً ما يظهر البلد على حقيقته. واضحٌ أنّ المغرب مجرّد معبر أصمّ لمهاجرين ومقاتلين. لكنّ المكان في السينما ليس مجرّد جغرافيا صماء، إذْ ربما يكون مكان الميلاد كارثة للبعض وفرصة للبعض الآخر. فرصة لا توفّرها أماكن أخرى.

في مراكش، يتعلّم السائح في أسبوعٍ واحد سلوكات كثيرة في تفاعله مع المكان. يستخدم كلمات. يشتري ديكورات. يبدو أنّ السيناريست يكتب الشخصية من موقعه في أميركا أو إسبانيا، لذا لا تظهر الشخصية له مُشتبكةً مع الفضاء المغربي الذي تُصوَّر فيه.

حين يُغيَّب المكان وأثره، تتراجع مردودية صدق السرد. هذا يقلّص فرص المتفرّج في تأويل ما يرى. يبدو أنّ الغاية من تغييب بصمة المكان المحلي منح الفيلم أفقاً عالمياً، أو الاستجابة إلى فكرة مُسبقة بأنّ المغرب لم يخرج بعد من العصور الوسطى.

هذا الواقع المُهيمن يفرض على الأفلام المغربية أنْ تعمل بجدّ على إبراز عبقرية المكان الذي نبتت فيه.

المساهمون