من مشاكل الثورة المصرية أن حركتها في البداية كانت أكثر نضجا ووضوحا من إطارها النظري والفكري. وفي زحام الأحداث والتطورات توارى هذا الإطار، وهو ما فتح مجالا كبيرا لإعادة تعريف الثورة من زوايا مختلفة وإلباسها هويات شتى بالاحتكام للظروف السياسية المتغيرة التي تمر بها. فالسياق الاجتماعي الحالم والجامع الذي بزغت فيه والذي أوجد مكانا للجميع، سمح لأطراف كثيرة بأن تستغل هذا الظرف لتحديد هوية هذا الحراك من منطلقات فكرية أو أيديولوجية أو دينية.
يقول البروفيسور حميد دباشي، الأستاذ بجامعة كولومبيا الأميركية في كتابه "الربيع العربي ونهاية حقبة ما بعد الاستعمار" إن ما قام به الشباب العربي في ثوراته أكبر من مجرد ثورة، ولكن مصطلح الثورة هو أقرب التوصيفات له. ذلك أن هذه الثورات هي مقدمة لتغيير هائل لا يطاول الأنظمة الحاكمة فقط وإنما يمتد للثقافة والجغرافيا. ويرى دباشي أيضاً أن هذه الثورات كتبت نهاية الأيديولوجيات الحتمية، تلك التي رسمت طريقا معينا للتغيير، فأتاها التغيير من مكان آخر. فالجماهير لم تخرج في ثورة طبقية على النمط الشيوعي ولم ترفع شعارات دينية بحتة على النمط الإيراني. وإنما صكت شعار عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية في مطلبية اجتماعية متجاوزة الأيديولوجيات ومتصالحة مع الدين.
هذا يعني أننا أمام نسق فكري وقيمي جديد، كانت الثورة أحد تجلياته في المجال العام. ولأن لكل حراك ثوري قيمه ومبادئه، والثورة المصرية ليست استثناء، فمن الأهمية بمكان رصد عناصر هوية الثورة المصرية عن طريق رصد دوافع هذا الحراك وشكله وشعاراته بشكل منفصل عن آلياته ومآلاته الآنية، والتي تتغير باستمرار. وهذا يستدعي بالضرورة قراءة الأفكار الدافعة والملهمة له. ومن الأسئلة البارزة التي تتردد في هذا الصدد: ما هو موقع الدين في هذا الحراك؟ وهل هو موقع مركزي كما يريده الإسلاميون؟ أم هامشي كما يراه معظم اليساريين والليبراليين؟ وهل هناك مستقبل لمثل هذه الأفكار؟
يمكن استكشاف الإجابات عن هذه الأسئلة عبر تعريف أبرز المفكرين والمثقفين وإسهاماتهم على ثلاثة مستويات. مثقفون ومفكرون ظهروا قبل هذا الحراك وأثناء اندلاعه ومن سيظهرون بعده. ولأن عملية التفاعل لا تزال مستمرة في المستوى الثالث، فسينصب الحديث على المستوى الأول والثاني.
فمن الذين ظهروا قبل اندلاع الثورة الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري وأفكاره عن خطاب التجديد الحضاري على مستوى منهج التحليل وعلى مستوى معالجة بعض القضايا كالعلمانية الشاملة والجزئية والتأصيل لأفكار فلسفية واجتماعية من منطلقات إسلامية وأيضا الراحل الدكتور محمد السيد سعيد أحد أهم المنظرين لأفكار حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية في مصر في السنوات الأخيرة، وهو الذي لم يخف ليبراليته ولا خلفيته اليسارية وكان يصف نفسه بأنه يساري بين الليبراليين وليبرالي بين اليساريين.
ولكلا الرجلين تأثير كبير على قطاع كبير جدا من الشباب بل على جيل كامل. ويمكن اعتبارهما نموذجين للمثقف العضوي؛ فرغم اختلاف المشرب السياسي والفكري لكل منهما إلا أنهما خاضا غمار حركة الاحتجاج الشعبية عبر حركة كفاية وشاركا في الحراك السياسي من أبواب مختلفة، فالمسيري انضم لحزب الوسط وسعيد كان من أبرز رموز الحركة الطلابية وكان ناشطا حقوقيا بخلاف نشاطه الصحافي الذي اختتمه بتأسيس جريدة البديل، فضلا عن عمله البحثي والأكاديمي. وكان لكل منهما دوائر شبابية وبحثية عديدة غير مقتصرة على تيار بعينه.
نموذج المثقف العضوي هذا اتخذ شكلا آخر بعد اندلاع الثورة في 25 يناير 2011 وأفرز عددا من الرموز منها الشيخ عماد عفت الذي تجاوز الأمر رمزيته كشهيد ينتمي للأزهر إلى تجسيد لنمط فكري جامع للثورة المصرية متجسد في منهجه وطريقة حياته واستشهاده. كان معلما كلاسيكيا للشريعة، ويقول تلامذته إن حياته ونشاطه كانا تجسيدا لمقولة شيخه عبد المنعم تعيلب "نتعلم ما يصير به الإنسان إنسانا قبل أن نتعلم ما يصير به المسلم مسلما"، وهو تلخيص وافٍ، ليس فقط لنمط حياة هذا الشيخ واستشهاده، وإنما لجوهر الفكرة الأساسية التي تتمحور حولها الثورة. فقد ترك موقعه كأمين للفتوى بدار الإفتاء لينخرط بين الثائرين المعتصمين في أحداث مجلس الوزراء عام 2011 ليستشهد هناك وليس في مسجده أو بين صفوف أحد الأحزاب أو الحركات الإسلامية، في وقت لا يستطيع كثيرون هضم وجود الفكرة الإسلامية في المجال العام إلا في إطار الجماعات أو الأحزاب الإسلامية سواء كانت في موقع المعارضة أو السلطة.
وهذه المعادلة، والتي يحتل فيها الإنسان وحريته وكرامته أهمية كبرى واضحة بشدة في أذهان الشباب الثائر قبل أن تتوه في زحام الاستقطاب السياسي بين الإسلاميين وغيرهم من القوى.
لقد كان قدر الثورة المصرية أن تندلع في ألفية جديدة حيث عصر مختلف ومناخ يلعب فيه الإعلام ومفاهيم حقوق الإنسان والتعبير دوراً كبيراً. فلو قامت هذه الثورة في السبعينيات لكانت شبيهة بالثورة الإيرانية. فالثورة هي بنت عصرها.
والثورة مصطلح مرن جداً ومتغير بطبيعته وقد تجاوزت حواضن تقليدية مثل الأزهر الشريف الذي كان الحاضن الأكبر تاريخيا للثورات، فمنه كانت تخرج المظاهرات مثل ثورة 1919 والثورات ضد الحملة الفرنسية وفيه كان الثوار يجتمعون، ويتصدر مشايخه للتفاوض ويصوغون البيانات ويطلقون الخطب الحماسية. لكنه لم يعد كذلك بسبب التصاقه بمنظومة الحكم. وقد أفسح هذا الغياب لظهور مثقفين عضويين على نهج أنطونيو غرامشي. ومع ذلك لم تعادِ الثورة الدين ولكنها قدمت قراءة جديدة له لم تحظ ببحث علمي كافٍ.
أما على مستوى المؤسسات، فقد انتقل الثقل الثقافي الثوري من الأزهر إلى محاضن ثقافية أخرى مثل ساقية الصاوي، وهي مركز ثقافي غير حكومي أسفل أحد الجسور بوسط القاهرة. وقد تربى فيها معظم رموز الجيل الشاب حاليا في آخر 15 سنة رغم أنها لم تمارس السياسة بشكل مباشر، ولكنها صنعت بأنشطتها المختلفة ثقافة مرتبطة بالهوية في الفن والأدب وطريقة معالجة القضايا من خلال أنشطتها المتنوعة المرتبطة بالناس. وهي ثقافة تجلت خلال اعتصام التحرير أثناء يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2011.
ومن هذه المحاضن أيضا الصالونات الأدبية والثقافية مثل صالون الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري وندوات مركز القاهرة لحقوق الإنسان ودورات وندوات حركات كفاية و6 إبريل وغيرها.
يمكن تلخيص عناصر هذه الثقافة التي تجلت في شعار عيش - حرية – عدالة اجتماعية - كرامة إنسانية في عدة مبادئ:
أولاً: الإنسان يحتل الأولوية الأولى من حيث حريته، وكرامته وحقوقه. وتأتي هنا مركزية محاربة الفقر، والتعاطف مع الفئات المهمشة والتواصل معها وجعلها جزءاً من التفكر السياسي والحراك الشعبي وليس حشداً للتصويت في مواسم الانتخابات وفقط أو مجالاً لتوزيع المساعدات والإعانات وحسب. فقبل 25 يناير بعدة سنوات، كانت هيئات وجمعيات شبابية تجوب المناطق العشوائية لحثهم على المشاركة في الاهتمام بالسياسة وعدم السكوت على الظلم. ويوم 25 يناير خرجت مظاهرة كبيرة مثلا من المناطق الفقيرة في امبابة.
ثانياً: ثقافة فوق الأيديولوجيات. فقد نسج الشباب ثقافة متجاوزة للأيديولوجيات السائدة وليست معادية لها، يستطيعون من خلالها التنسيق والتخطيط والتنفيذ من دون عبء الإرث الصراعي. وتعززت فكرة أن المواطن أقوى من الدولة. حيث تم تعزيز الأمل بأن الإنسان قادر على مواجهة الظلم المتفشي في الدولة والحكومة ولو كان وحده، وليست نماذج خالد سعيد والبوعزيزي ببعيد. والجانب الآخر من هذه الصورة الوردية أنه لن يقتنع بمقولة الصبر على ظلم الداخلية لأن هناك إصلاحات ومحاكمات لقتلة الشهداء في المستقبل.
ثالثاً: اعتماد اللاعنف ثقافة وممارسة، وهو الأمر الذي بدأ نظريا في دورات شباب حركة كفاية و6 إبريل على مدار ست سنوات تقريبا لأسس وتجارب مقاومة اللاعنف عند الشعوب الأخرى وجابوا القرى والمدن المصرية يدرسونها للناس والشباب. وكانت أكبر تجلياتها في يوم 25 يناير وما بعده من تخطيط أربك أجهزة الأمن بشكل كبير؛ لأنها مدربة على التعامل مع العنف فقط. وفي هذا الإطار يبرز دور الفنون كتعبير إبداعي عن الذات الفردية المقاومة وآمالها وليست تلك التي تحمل رسائل سياسية ودينية مباشرة.
كانت هذه بعض من ملامح المسألة الثقافية المتعلقة بالثورة المصرية، والتي قد تتوارى خلف حُجب الأحداث السياسية المتلاحقة. ومن حسن حظ هذا الجيل الذي قام بالثورة أن الثورة المضادة، والتي تعلو موجتها حاليا، لا تحمل أي نسق فكري أو أيديولوجي. الأمر الذي يزيدها هشاشة على هشاشتها ويزيد الأمل في المستقبل بانتصار هذه الثقافة الجديدة.
(مصر)