الكاتب حينما يكون والده عسكريّاً

01 اغسطس 2015
+ الخط -
صعب جدا بعدما تقرأ الكاتب الروسي، نيقولا بيرديائيف، إلا وأنت قد توصلت إلى تمام يقينك أن هذا الرجل سوف يترك كليته العسكرية، مثلما يصعب عليك تخيل أن والد أم كلثوم ليس إلا منشدا للأذكار والتواشيح في قرية جميلة، بجوار أضلع النيل الشجيّة ومؤنسا لطمْيه. كانت أم كلثوم تحتاط للعسكر في كل خطواتها، وكأنها، بحسّ الفلاحة الذكية التي فيها، أدركت أن القرب من حامل السلاح لا بد أن يكون بحذر وحيطة، ولازمها ذلك حتى ماتت. ويوم أن أضافوا إلى المطرب محمد عبد الوهاب لفظ (لواء)، أصبح منطقة عسكرية مؤمّمة، مثل الثكنة العسكرية، وبات بعيداً عن الفن، وأظنه توقف في حينها عن التلحين، وبات اللفظ على الأسماع كحائط صد بين محبة الناس أغانيه وألحانه. 
كما لا يمكن تخيل رامبو إلا فلاحاً فرنسياً نبت كشيطان من الطين، وهذا الشيطان سيقلب معادلة الشعر في الكون كله، عابرا العالم من غربه إلى شرقه، من دون إحساس بذنب. كما لا يمكن تخيّل علي سالم بهذه الهيئة التي عليها إلا كابن ضابط بوليس. كذلك لا يمكن أن يكون جان جينيه إلا ابن محبة غير شرعية، ويعلن هو، فيما بعد، حربه وثأره، كتابةً وسلوكاً، على المهذبين واللصوص الحقيقيين، من خزنة أختام أوروبا العجوز التي شربت دماء بلدان مستعمراتها من الفقراء والمعوزين في شمال أفريقيا، وباقي المستعمرات الأخرى، وكأنه كفّر عن ذنوب أوروبا، فيها، بكل ما فعل طول حياته على حدود بلدانها، هاربا ومراوغاً وسجيناً ومنبوذاً ولصا، فرِحا بسرقات روحه وجسده ويده، على الرغم من أنف أوروبا العجوز، وبالَ على كل فلسفة عسكرها بعد حربين، رأى فيهما أعاجيبها.
كما لا يمكن تصور نجيب محفوظ إلا ابن موظفين لطفاء، وليس له علاقة بالعسكر، ولا يحب بداية ثورتهم، بل يتوجّس منها خيفة، إلى درجة أنه كفّ عن الكتابة ست سنوات، متوجسا ومرتابا ومبتعدا. وأندهش لماذا اختارت ثورة يوليو ضابطين كبيرين من بين ضباطها، هما ثروت عكاشة ويوسف السباعي وزيرين للثقافة، ووضعت تحت أيديهما ما شاءا من إمكانات متاحة.
أحياناً، أتخيل كتّابا أعرفهم، خرجوا بمعجزة من تحت أيدي آبائهم الذين يعملون في الجيش أو البوليس، ابتداء من الخفراء النظاميين في القرى، مرورا بالعساكر والضباط، وكثيرا ما أرى، بوضوح شديد، شيئا من بقايا الأفرولات والبيادات، على بعض سلوكياتهم التي تكون عفوية.
أحياناً، أقول لنفسي ماذا لو كان (بوذا) ليس ابن أمراء، وماذا لو كان المسيح لم يعمل بالنجارة. أحياناً أتخيل قضاة، في الحياة للأسف معنا، أقسى من ضباط مدفعية، خاضوا حروبا في البلقان أو سيبريا، فأجد أن آباءهم لم يكونوا سوى حلاقين بسطاء، في قرى مستقرة وهادئة، فأعيد تقييمات أخيلتي ومعلوماتي، وأتأمل أكثر، حتى إنني سألت نفسي في تأملاتي، وقلت: لماذا يحظى الحلاق في الكتائب العسكرية، في بلادنا على الأقل، بمكانة خاصة، إلى درجة أنه هو الأداة الأولى للتأديب في الكتائب العسكرية، حينما يحلق للسجناء الذين حصلوا على جزاءات، ويكون الحلاق في كل مرة في سعادة غامرة.
ما زلت أتأمل نيقولا بيرديائيف، حينما سلّم عهدته لكليته العسكرية، مودعا سلاحه، وطموحه الذي حددته الأسرة أو العائلة أو رعونة الرغبة في ميعة الشباب الأولى، وهل لذلك علاقة بما دفعه هذا الرجل، فيما بعد، من سنوات في السجون وخارج البلاد؟
في كل مرة، أقول لنفسي: من ذلك الذي يشعل في كل مكان وزمان كل هذه الحروب كي نكون دائما في حاجة مُلحّة إلى ذلك الساحر القديم الذي يحمل سلاحه على كتفه، ويجعلنا دائما في احتياجٍ شديد لوجوده الضروري، على الرغم من أنه دائما ما يشتهي، لأن يحكمنا أيضا بعد ذلك، مع تمام علمه أننا لا نحبه، وهو أيضا لن يحارب عدوا، بل يحارب من يزرع له القمح، ويدفع له راتبه مضاعفا.
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري