القاهرة والتطبيع الإماراتي .. من يتحدّث باسم العرب؟
أعلنت دولة الإمارات، قبل أيام، تطبيعا كاملا للعلاقات مع إسرائيل. ويعلم متابع هذا الإعلان أنه تحصيل حاصل في المجمل، فهو إعلان لعلاقات كانت قائمة منذ سنوات، والاختلاف الوحيد إخراجها إلى العلن، والحديث عنها بكل وضوح. ورأى معظم الكتاب والمحللين خطوة الإمارات هدية انتخابية للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المأزوم الذي يسعى إلى ولاية ثانية. وهي أيضا هدية لرئيس الوزراء الإسرائيلي المأزوم أيضا داخليا بنيامين نتنياهو. ولكن للأمر أبعادا أكثر، تتخطى مسألتي ترامب ونتنياهو، وهي تتناسب أكثر مع المخطط الذي يعمل على تنفيذه ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، في المنطقة، من خلال محاولات السيطرة علي المنطقة ومقاومة الانتفاضات العربية والوقوف في وجه التحول الديمقراطي، والتحالف مع التيارات اليمينية الغربية، إلى جانب السعي إلى أن تكون الإمارات القوة الإقليمية في المنطقة، مستغلا بذلك الفراغ الذي خلفه غياب القاهرة عن الإقليم، نتيجة أزماتها الداخلية والإقليمية التي تحاصرها، والتي ساهمت الإمارات في تشكيل جزء منها، من أجل تقزيم الدور المصري واستبداله بالدور الإماراتي.
تريد الإمارات أن تكون القوة المهيمنة في المنطقة، والمتحدثة باسم العرب في القضايا المختلفة
وهنا نلحظ التحول، فبعد الحروب التي خاضتها، وآخرها حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، عقدت القاهرة معاهدة سلام مع إسرائيل، مسبوقة باتفاقية كامب ديفيد. وبغض النظر عن الموقف أو الملاحظات حول الاتفاقية وبنودها، فإن ذلك يأتي في إطار أن يكون هناك سلام بين دولتين بينهما حدود مشتركة، وخاضا عدة حروب، وهذا غير موجود في الحالة الإماراتية الإسرائيلية، فلا حدود مشتركة، ولم يخض أي منهما حروبا ضد الآخر. وحينما عقدت اتفاقية كامب ديفيد، كانت القاهرة المتحدث والممثل الوحيد للعرب عند التفاوض مع إسرائيل. وطبقا لتقارير غربية كتبت في أثناء فترة الحرب الباردة وما تلاها، انزعج بعض العرب بشدة من أن تمثّل مصر العرب عند الحديث والتفاوض مع إسرائيل، وهذا أحد الأسباب التي جعلت مصر تذهب منفردة إلى اتفاقية كامب ديفيد. وهناك محاولات من دول خليجية لا يعجبها هذا الاحتكار التمثيلي الذي تقوم به القاهرة، فتسعى إلى التحالف مع دول عربية أخرى للتفاوض مع إسرائيل، لكسر ذلك الاحتكار، وقد يمثل هذا التحالف في المستقبل نوعا من التحالف ضد مصر. تكرّر الأمر نفسه في أحد التقارير التي كتبتها سفارة ألمانيا الشرقية في القاهرة عام 1985، أن الرئيس المصري، حسني مبارك، يريد العودة إلى التعاون مع المعسكر الشرقي (المعسكر المضاد لإسرائيل وحلفائها الغربيين، أو ما أطلق عليه التقرير حينها الدول الإمبريالية). وتحدث التقرير أيضا أن مبارك غير واثق في الأميركيين، وأن دولا خليجية تسعى إلى تحالف في ما بينها يشمل إسرائيل، ولدى مبارك مخاوف من أن يعمل هذا التحالف ضد مصر مستقبلا، ولأجل هذا يريد العودة إلى العمل السياسي مع المعسكر الشرقي.
تزامن إعلان التطبيع الإماراتي السعودي مع بروباغندا روّجت أمورا عديدة خاطئة، في محاولة لتقديم تبرير كاذب، منها وفف ضم إسرائيل مزيدا من الأراضي الفلسطينية
عند قراءة ذلك التقرير الذي كتب قبل عقود، والربط بينه وبين ما يحدث الآن، نجد بالفعل أن تحالفا تم تشكيله بين دول خليجية (الإمارات والسعودية والبحرين) وإسرائيل، أحد أغراضه وقف التمدّدين، الإيراني والتركي، في المنطقة (أحد أسبابهما أيضا ضعف القاهرة وتراجعها)، إلى جانب ملء الفراغ الذي خلفه غياب القاهرة نتيجة الأزمات التي تحاصرها من جميع الجهات، وفي مقدمها أزمة سد النهضة. وقد ساهم هذا التحالف في تعميق أزمات القاهرة، بانخراطه في تلك الأزمات وتعميقها، وأكبر دليل على ذلك الانخراط في أزمة سد النهضة ومساندة الجانب الإثيوبي ودعمه ماديا وسياسيا. وقد تزامن إعلان التطبيع الإماراتي السعودي مع نوع من البروباغندا التي روّجت أمورا عديدة خاطئة، في محاولة لتقديم تبرير كاذب لهذه الخطوة، منها أن هذا الإعلان سيوقف ضم إسرائيل مزيدا من الأراضي الفلسطينية. والحقيقة أن التطبيع الإماراتي الإسرائيلي لن يحل أزمة اللاجئين أو حق العودة، ولن يحل أزمة المستوطنات أو القدس، ولن يوقف حصار غزة.
التطبيع الإماراتي الإسرائيلي لن يحل أزمة اللاجئين أو حق العودة، ولن يحل أزمة المستوطنات أو القدس، ولن يوقف حصار غزة.
يتضح أن الإمارات تريد أن تكون القوة المهيمنة في المنطقة، والمتحدثة باسم العرب في القضايا المختلفة، خصوصا القضية الفلسطينية. لذا فإن أحد أهداف قرار التطبيع الإماراتي حرفيا، أخيرا، كسر الصورة الاحتكارية لمصر في الحوار مع إسرائيل، أو بمعنى آخر زيادة عزلة القاهرة وتكوين حلف مستقبلا ضدها، للقضاء على ما تبقى من دور لها. قد يرى بعضهم هذا ضربا من الخيال، ولكن حين تأمل تصريحات السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، بأن الجيشين، الإماراتي والإسرائيلي، هما أكبر جيشين في المنطقة، يدرك ما تسعى الإمارات إلى تحقيقه من طرح نفسها قوة إقليمية وعسكرية، ويدرك أيضا السبب خلف انتشار الإمارات عسكريا في ليبيا واليمن وغيرهما، وهو ما لا يتناسب مع حجم الإمارات وتعداد سكانها مطلقا. وحينما يقول مستشار لولي عهد أبوظبي إن الإمارات حينما تتخذ خطوة فإن المنطقة ستتبعها، فهذا دليل آخر علي مسعى الإمارات وولي عهدها. وفي الوقت نفسه، تسعى إسرائيل من التطبيع مع دول الخليج إلى عدة أمور، أبرزها: الحصول على النفط الخليجي بأقل الأسعار، إلى جانب لعب دور مستقبلي في السياسة الخليجية وزيادة الفتن في ما بينها، وتكوين حلف مع تلك الدول، كما أشير أعلاه، لإيقاف التمدّدين، الإيراني والتركي، والقضاء على أي دور متبقٍّ لمصر المحاصرة بالأزمات. تسعى إسرائيل أيضا إلى التوغل في السوق الخليجية الاستهلاكية، وفتح أبواب أرحب وأوسع للمنتجات الإسرائيلية. وهي تعمل منذ سنوات، لتغيير ديموغرافي واسع في دول الخليج، من خلال إعادة توطين حوالي ثلاثة ملايين فلسطيني في تلك الدول، وهو ما رفضته بعض الدول، خصوصا الكويت. ولو نجح هذا الأمر الذي تسعى إليه إسرائيل، والذي سيساعدها فيه ولي عهد أبوظبي، فإن الأمر نفسه قد يعاد طرحه بشأن سيناء المصرية، في ما عرف من قبل بإعادة توطين الفلسطينيين. ولعل ما حدث في تنازل النظام المصري عن جزيرتي تيران وصنافير للعربية السعودية يجعل هذا محتملا، أو يجب أخذه في الاعتبار باعتباره خطة استراتيجية يراد تنفيذها، مستغلين في ذلك ضعف القاهرة نتيجة الأزمات التي تحاصرها.