نجحت قوات المعارضة السورية أواخر العام 2012 في السيطرة على مدينة دوما، كبرى مدن الغوطة الشرقية في ريف دمشق، ثم وسعت سيطرتها مع مطلع العام 2013 لتمتد إلى باقي مدن وبلدات الغوطة. فلجأ نظام بشار الأسد إلى سياسة العقاب الجماعي لهذه المناطق، بحيث منع دخول المواد الغذائية مثل الأرز والطحين والسكر إلى جميع مناطق الغوطة الشرقية. كما منع تصدير المنتجات الزراعية التي تزرع في الغوطة إلى خارجها، وهي خطوة تراجع عنها جزئياً لاحقاً، وسمح عبر وسطاء باستجرار بعض منتجات الغوطة الزراعية التي تحتاجها العاصمة دمشق، مقابل إدخال كميات من السكر والطحين، وإن بقيت العملية مقننة ومزاجية، وكثيراً ما تتوقف ارتباطاً بالتطورات الأمنية.
غير أن النظام أصرّ على منع إدخال الأدوية، لتفتك الأمراض بأهالي الغوطة، وعمد إلى قطع الكهرباء بشكل تام فضلاً عن المياه والاتصالات والمحروقات، وهو ما دفع الأهالي خلال سنوات الحصار المديدة إلى محاولة "اختراع" بدائل لكل الممنوعات للبقاء على قيد الحياة، مثل استخراج غاز الميثان من روث الحيوانات، بهدف استخدامه في الطهي والتدفئة، واستيلاد الكهرباء من خلال "النواعير" التي تولد طاقة كهربائية ضعيفة تكفي لشحن الجوالات والحواسيب. كما تم التغلب جزئياً على مشكلة قطع الإنترنت من خلال توزيع خطوط إنترنت فضائية، ونشر مقويات شبكات على الأسطح باستخدام أدوات معدنية وكوابل.
وفي ظل الحصار، تراجعت فرص العمل، وبالتالي قل المال في أيدي الناس بالرغم من استمرار بعض الموظفين في الدولة في مزاولة أعمالهم بالعاصمة دمشق بعد تزويدهم بـ "بطاقة موظف" من أجل السماح لهم بالمرور عبر حواجز النظام، مع أنها عملية محفوفة بالمخاطر، إذ اعتقل العديد منهم على الحواجز بتهم مختلفة، فضلاً عن تكاليف وسائل التنقل المرتفعة ما يجعل نسبة كبيرة من رواتبهم تضيع كأجور للتنقل، علماً أنه لا يسمح لهم باصطحاب أية مواد غذائية خلال عودتهم إلى الغوطة. وقد دفع ذلك العديد من الموظفين للخروج نهائياَ من الغوطة، وترك عائلاتهم داخلها، لتلتحق بهم لاحقاً.
وأمام قلّة الأموال بين أياديهم، عاد أهالي الغوطة في كثير من الأحيان، إلى أساليب "المقايضة" لتبادل السلع بدلاً من الأموال، سواء كانت تلك السلع طعاماً أم مواداً أخرى، مثل مقايضة كيلو أرز بعلبتي دخان أو بلتر أو لترين من المحروقات.
ولا شك أنّ كبر مساحة الغوطة، وأراضيها الزراعية التي كانت تعتبر رئة دمشق وسلّتها الغذائية، ساعد على التقليل من آثار الحصار السلبية، خلافاً لمناطق أخرى مكتظة بالسكان، وتفتقر إلى الأراضي الزراعية. غير أنّ النظام نجح في إبريل/ نيسان الماضي في فصل القطاع الجنوبي في الغوطة، والذي يضم عدة بلدات مثل دير العصافير، زبدين، بالا، ركابية، حوش دوير، بياض، عن شمالها، أي فصل المناطق الزراعية عن المناطق المأهولة بالسكان.
كما أنّ العائق الرئيسي أمام الاستغلال الأمثل للأراضي الزراعية يتمثّل في عدم توفر الوقود الذي يحتاجه المزارعون لاستخراج المياه وريّ الأراضي، فضلاً عن نقل المحاصيل إلى الأسواق. ورغم محاولات إيجاد بدائل محلية للوقود مثل إسالة المواد البلاستيكية وتصفيتها، إلا أنّها تظل طرقاً بدائية، وتنتج وقوداً بمواصفات رديئة وأسعار أغلى، فضلاً عمّا تلحقه هذه الوسائل من أضرار كبيرة بالبيئة والأراضي الزراعية.
وقد استفاد أهالي الغوطة من حاجة النظام لبعض منتجات مناطقهم، خاصة الفواكه والخضروات، وقام بعض التجار والسماسرة بتأمين مقايضات مع النظام لتزويد العاصمة دمشق ببعض المنتجات الزراعية، مقابل تزويد الغوطة بكميات من السكر والطحين والوقود.
ومن أشهر التجار الذين يسهلون عمليات التبادل هذه محيي الدين المنفوش (أبو أيمن)، والذي يقوم بدور كبير بالتواصل مع قوات النظام من أجل إدخال بعض المواد الغذائية والوقود إلى الغوطة الشرقية، مقابل تصدير منتجات زراعية من الغوطة إلى دمشق، فضلاً عن تصدير ألبان وأجبان من المعمل الذي يديره هو في بلدة مسرابا المجاورة لمدينة دوما، حيث يقوم بتمرير البضائع في الاتجاهين من حاجز إدارة المركبات قرب مدينة حرستا، لكنّه يرفع أسعار المواد الداخلة للغوطة أضعافاً عدة.
يضاف إلى ذلك، حفر الأهالي، تحت إشراف الفصائل المسلحة، العديد من الأنفاق التي يتمّ من خلالها تهريب مواد غذائية من وإلى دمشق، لكنّ أغلبها معروف لدى النظام، ويشرف على حركتها أشخاص لهم صلات مع قواته، وكثيراً ما يؤدي التنافس للسيطرة على هذه الأنفاق المدرة للأموال، إلى خلافات واقتتال بين الفصائل المسلحة في الغوطة.
وبسبب ضيق الأحوال المعيشية، والقصف اليومي الذي تتعرّض له المنطقة من جانب قوات النظام وطيرانه الحربي، فضّل الكثير من أهالي الغوطة خلال السنوات الماضية مغادرتها للعيش في دمشق وضواحيها، أو اللجوء خارج البلاد، وخاصة النساء والأطفال حيث تسهّل الفصائل خروجهم مجاناً، وأوكلت ذلك لمكاتب تابعة لها تعنى بشؤون المدنيين، وخاصة الحالات التي تعاني من المرض أو فقدان المعيل، وأدى ذلك إلى نقصان عدد سكان الغوطة إلى نصف ما كان عليه قبل الحصار، حيث لا يتجاوزون اليوم 400 ألف نسمة.
أما من يريد الخروج من الشبان والرجال البالغين، فإنّ العملية صعبة ومكلفة لهم، ناهيك عن أنّ الفصائل المسلحة تمنع بشكل كامل خروج الكوادر الطبية لأي سبب كان، بسبب قلة عددها والحاجة الماسة إليها.
وما ساعد على صمود الأهالي، والتقليل نسبياً من الآثار السلبية للحصار، المساعدات التي تصل من الخارج لدعم المشاريع الزراعية أو تنقية مياه الشرب، وكان لدولة قطر نصيب وافر من هذه المساعدات عبر وحدة الدعم التابعة للمعارضة السورية.