مُنذ السادسة صباحاً - الرابعة بتوقيت غرينتش، تستيقظ الأسرة التي تعمل بأسرها في الصباغة، لا يحصلون على راحة من أجل تناول الغذاء، بل يعملون حتى يأتي ليل التاسعة، ويذهب كل منهم إلى مخدعه استعداداً ليوم عمل جديد.
امتهن سلامة هذه الحرفة منذ أن كان عمره 8 سنوات، ويقول في هذا الصدد للأناضول: "أردت أن أتعلم هذه المهنة، لأن رجال الشرطة في تلك الفترة كانوا يقومون بالقبض على الشبان الصغار بشكل عشوائي، لكنهم كانوا يتركون من يجدون عليه أثر العمل الجاد، وكانت هذه المهنة تساعد في ذلك، حيث كانت الألوان تغمر يدي دوماً، فعندما كانوا يقبضون علي، يتركونني بعدها على الفور، لأنني أعمل وأكسب قوت يومي".
يقول سلامة: "المصابغ البلدي (اليدوي) من قديم الأزل في مصر منذ الفراعنة، أما المصابغ الحديثة فظهرت منذ فترة الانفتاح التي قادها الرئيس الأسبق محمد أنور السادات".
ويضيف: "يأتيني زبائن من أنحاء مصر، من الإسكندرية شمالاً حتى أسوان جنوباً، كما أن لي عملاء يأتونني من خارج مصر. فمثلاً توجد لدي عميلة اسمها تريزا من ألمانيا، تأتي إلى مصر بين الحين والآخر، حتى تشتري مني بعض الخامات المصبوغة لأنها تجد مثلها في بلدها، وعلاقتي بها ممتدة منذ فترة بعيدة، وتوجد صورة لنا معاً علقتها على حائط المصبغة".
عملية الصباغة هي عبارة عن تلوين الخامة المستخدمة حسب رغبة العميل، حيث يتم خلط اللون بالماء الساخن ثمّ تقليبه جيداً ثم وضع الخامة، التي قد تكون خيوطاً حريرية أو صوفاً أو قطناً داخل اللون أكثر من مرّة، ثمّ العمل على عصر هذه الخيوط داخل ماكينة عصر، ثمّ بعد ذلك يتم تجفيف الخيوط في الشمس، حتى تأتي آخر مرحلة وهي وضع لفافات الخيوط وربطها داخل أكياس كبيرة لتعود إلى العميل.
يقوم العاملون في المصبغة بمهام مختلفة، حيث قام رب العمل "سلامة" بوضع خطة تخصّص وتقسيم العمل داخل المصبغة، فتجد الحفيد "سمير" (25 عاماً) الذي يعمل في مصبغة جدّه منذ كان عمره سبع سنوات، يقوم بخلط الألوان ثمّ يضع الخيوط داخلها، وبعدها يأخذ الخيوط جانباً حتى تتشرب اللون، ثمّ يقوم بوضعها في ماكينة العصر، ثمّ يحمل لفافات الخيط على كتفه إلى الدور الثاني "سطح المصبغة".
يقول سمير:"مهنة الصبّاغ ليست مرهقة بدنياً، الأمر كله يرتبط بالمجهود الذهني، إذ يجب أن يكون العامل في منتهى تركيزه لأنه مُطالب بأن يقوم بعمل كميات ضخمة من الخيوط بنفس اللون والدرجة، من دون أي انتقاص من الجودة، وهذا أمر ليس بسيطاً".
أمّا الابن مصطفى (52 عاماً) فتجده في الدور العلوي من المصبغة تحت الشمس واقفاً على ألواح خشبية رفيعة، يتحرك من لوح إلى آخر، ويرتب لفافات الخيوط الملونة بشكل يساعد على التجفيف سريعاً.
يقول مصطفى سلامة: "الصباغة اليدوية تعتمد على أفكار الشخص نفسه في كل المراحل، حيث يحصل فقط على اللون الذي يريده المستهلك، ثم يقوم هو -العامل- باستخدام خبرته في خلط الألوان وعصر الخيوط وتجفيفها، في حين أن هذا الأمر لم يعد قائماً في المصانع الكبرى، حيث أصبحت التكنولوجيا الحديثة والعلم هما المسيطران على مراحل العمل".
وهنا يضيف الحاج سلامة "الإمكانات مهمة جداً في العمل، فلا يمكنني أن أنجز عملاً كبيراً بموارد قليلة، لن أنجح"، معرباً بعدها عن أمله في أن يمتلك مكاناً تصل مساحته إلى ما يقرب من الألف متر، حتى يستطيع العمل كما يريد".
خلال السنوات الأربع الماضية، كان العمل قليلاً في رأي سلامة، فالثورة لم تضف شيئاً للبلاد، حيث يرى أن المصريين كان عليهم أن يستمعوا لكلمات الرئيس الأسبق حسني مبارك في خطابه الثاني في الأول من فبراير/ شباط عام 2011، عندما طالب بالبقاء ستة أشهر، وإلا ستأتي الفوضى. لم ينتظر المصريون هذه الأيام القليلة، يقول سلامة، و"أتت الفوضى".
مصبغة الحاج سلامة هي مصبغة الفقراء، فزبائنه كما يقول "هم الفقراء"، ففي كثير من الأحيان يأتيه زبائن يريدون صبغ بعض الأقمشة البسيطة التي لا يمكن لمصنع كبير أن يقوم بصباغتها.
يحلم سلامة بأن تسير الحياة هادئة معه في الأيام المتبقية له، متمنياً من الله أن يكمل حياته بالستر له ولزوجته وأسرته.
لم يستطع العلماء والمؤرخون أن يحددوا متى بدأ استخدام الألوان في صباغة الأقمشة، إلا أن هناك عدة روايات تقول إن الصباغة يعود تاريخها إلى ما يزيد عن 4000 سنة في مصر، بعد وجود قماش مُلوّن في مقابر فرعونية، وإن المومياوات كانت ملفوفة في هذا القماش ذي اللون النيلي. رواية أخرى تتحدث عن أن أوّل ما سُجّل عن تاريخ الصباغة كان في العام 2600 قبل الميلاد في الصين، وأن صباغة الصوف بدأت في روما العام 715 ق.م.
كما تشير المصادر إلى أنه حتى منتصف القرن التاسع عشر كانت الألوان المستخدمة في الصباغة تستخلص من الخضروات والنباتات والأشجار وبعض الحشرات.
حتى عام 1856 حيث قام الكيميائي الانجليزي الشاب ويليام هنري بيركن باكتشاف أول مادة صباغة صناعية ذات لون الموفين أو الأرجواني أثناء بحثه عن مصل مقاوم لوباء الملاريا.