يواصل الفلسطينيون في قطاع غزة ملاحقة المساعدات القليلة التي تصل إلى القطاع، وبعد أن كانوا يلاحقون الشاحنات، أصبحوا أيضاً يترقبون ما يصل عبر الإنزال الجوي، رغم أن طائرات الاحتلال تستهدف تجمعاتهم.
يراقب مئات الغزيين السماء لمدة ساعات خلال الأيام الأخيرة، أكثر من أي وقت مضى، بعد أن كررت دول عدّة، مثل الأردن ومصر وفرنسا والإمارات، وحتى الولايات المتحدة الأميركية، عمليات إنزال المساعدات إلى قطاع غزة عبر الجو، في ظل العجز التام عن اتخاذ قرارات تتعلق بتأمين ممرات برية آمنة لدخول المساعدات، وضمان سيرها من دون عوائق.
وبعد أن سقطت كميات من تلك المساعدات في البحر مؤخراً، استخدم بعض الأشخاص مراكب صغيرة لانتشال صناديق المساعدات الخشبية التي غرقت بعض محتوياتها، بينما قرر آخرون لم تتوفر لهم مراكب السباحة لإحضار بعض منها.
سقطت ثلاثة من صناديق المساعدات بالقرب من شاطئ بحر غزة في المنطقة الشمالية المحاصرة، وسقطت أعداد أكبر في مناطق جنوبي القطاع، وصناديق أخرى في مناطق متفرقة، لكن ظل نصيب المنطقة المحاصرة هو الأقل.
رغم الحصار والجوع، استهدف الاحتلال تجمعاً لمواطنين في شمالي القطاع أثناء انتظارهم وصول المساعدات التي بدأت تصل بشكلٍ محدود وبكميات شحيحة خلال الأيام الأخيرة، في نقطة وقوف شاحنات المساعدات في منطقة الشيخ عجلين داخل الساحة المعروفة محلياً باسم "دوار النابلسي".
كانت شاحنات المساعدات قادمة من شارع الرشيد (غرب)، وتجمع الناس للحصول على بعض منها، لكن الاحتلال أغار على المنطقة عبر الطائرات الحربية والمسيرة وقصفها بالمدفعية، ما أوقع شهداء وجرحى.
لا تصل المساعدات إلى الشمال منذ قسم الاحتلال قطاع غزة إلى قسمين
وقدرت إحصائية مساء الخميس 29 فبراير/شباط، وصول عدد شهداء القصف الذي أطلق عليه اسم "مجزرة الرشيد"، بأكثر من 120 شهيداً إضافة إلى مئات الجرحى، وساهمت الشاحنات التي أوصلت المساعدات في نقل الجرحى والشهداء.
وتكررت واقعة استهداف تجمعات الحصول على المساعدات عدة مرات منذ بداية العام الحالي، ويتعمد جيش الاحتلال في كل استهداف قتل المزيد من الغزيين، سواء عبر طائرات الاستطلاع التي تملأ السماء، أو عبر القنص المباشر، أو القصف المدفعي، وتقدر أعداد شهداء هذه الوقائع خلال أول شهرين من العام الحالي بأكثر من 250 شهيداً، وقع أغلبهم في شارعي صلاح الدين والرشيد الرئيسيين.
ويعبر الغزيون عن انزعاجهم الشديد إزاء هرولة الناس إلى مناطق وصول المساعدات أملاً في الحصول على كميات قليلة من الطعام، والتي لا تتجاوز في العادة كميات صغيرة من البسكويت وبضعة معلبات غذائية، ثم قتلهم على أيدي جيش الاحتلال، مؤكدين أن طريقة توصيل المساعدات عبر الإنزال الجوي تزيد من إهانتهم، كما أنها لا تسمح بوصول المساعدات إلى الجميع.
يعيش ساري البيطار (43 سنة) مع عائلته في المنطقة المحاصرة بحي تل الهوا في مدينة غزة، وقد حصل بعض أفراد المنطقة على بعض المساعدات خلال الأيام الأخيرة، لكنها لا تكفي الأعداد المتواجدة هناك، ويؤكد أن كثيرين من جيرانه كانوا ينتظرون المساعدات في منطقة الشيخ عجلين، لكنهم تعرضوا للاستهداف، وعادت جثامينهم بعد استشهادهم، ومن بينهم أقارب له من النازحين.
يقول البيطار لـ"العربي الجديد": "وقعت المجزرة في دوار النابلسي بعد نحو 20 دقيقة من مغادرتي المكان. للأسف نحن هدف سهل للاستهداف مع اتباع وسيلة الإنزال الجوي للمساعدات الإنسانية، فهي تتناسب مع سياسات الاحتلال من الجانبين الأمني والإعلامي، إذ يسمح بدخول كميات قليلة من المساعدات لترويج أن المنطقة غير محاصرة، كما يقوم بالتخفيف عن شركائه في العدوان، ومن بينهم الدول العربية الصامتة".
يضيف البيطار: "لا توجد أية مبررات منطقية، فلماذا غادرت المنظمات الأممية والدولية؟ ولماذا لا تعود مع توفير ضمانات دولية لقيامها بتوزيع المساعدات بشكلٍ جيد. على أرض الواقع، لا لوجود لأي جهد مؤسسي، وهو ضرورة لتنظيم الجهد الإغاثي البري، وهذا يدفع لاستمرار الأزمة وتعمقها، لنظل نعاني من الجوع حتى الموت، بينما الجميع يتجاهلون ما يحصل، ويكتفون بترديد إدانات جوفاء بلا قيمة".
وأسقطت كل من الأردن وفرنسا والإمارات ومصر والولايات المتحدة خلال الأيام الماضية نحو 200 صندوق تضم مواد غذائية ومعدات طبية على جنوبي قطاع غزة، من بينها مستلزمات مخصصة للمستشفى الميداني الأردني في مدينة خانيونس، ووصلت كميات قليلة إلى المنطقة الشمالية، بالتزامن مع دخول بضع شاحنات مساعدات، والتي أصبح الغزيون يطلقون عليها اسم "شاحنات الموت".
كان الفلسطيني موسى الفصيح واحداً ممن يتتبعون وصول المساعدات عبر الإنزال الجوي، وشاهد وصول واحدة منها إلى منطقة تل الهوا، لكنه لم يستطع الوصول إلى المكان في الوقت المناسب، وحين وصل شاهد شجارات بين المتجمعين حول المساعدات القليلة. لكنه كان شاهداً على مجزرة شارع الرشيد، وطالع بعينيه اختلاط دماء الشهداء والمصابين بالدقيق.
يقول الفصيح لـ"العربي الجديد": "أفرغت الشاحنات حمولتها من الدقيق، ثم حملت الشهداء والجرحى إلى مجمع الشفاء الطبي ومستشفى كمال عدوان، وكان عشرات الناس يبكون، ويقولون انتظرنا الطحين فعدنا بالجثامين. الجوع لا يرحم، والمساعدات لا تصل بطريقة تحفظ كرامتنا، وهذه مهانة مقصودة، كما أن هذه الطرق الاستعراضية لن تنهي الأزمة، فما قيمة إسقاط ثلاث مظلات مساعدات على كامل شمالي قطاع غزة؟".
في المناطق الجنوبية، وصلت كميات أكبر من المساعدات عبر المظلات، لكنها لم تكف المصطفّين على شاطئ البحر. كان هايل أبو كيسة أحد من شاركوا في إحضارها من داخل البحر عبر مركبه، وكان ينقلها إلى الشاطئ فيتخطفها الناس المتجمعون.
يقول أبو كيسة لـ"العربي الجديد: "كان مئات الناس متجمعين على شاطئ البحر على أمل الحصول على بعض المساعدات، لكن أعداد من لم يحصلوا على شيء كان عشرة أضعاف. عندما انتهيت من المساعدة في إحضار الصناديق الكبيرة، قمت بفتح إحدى الكراتين التي كانت في صناديق المساعدات، فصدمت من المحتوى الذي تضمه، فمحتواها قد يكفي أسرة عادية لبضعة أيام فقط، إذ إنها تضم بعض الفواكه المجففة، ومواد أخرى غير لازمة، بينما يفترض أن تضم أصناف مأكولات ومعلبات تصلح للتخزين لوقت طويل، وتكفي لإطعام أعداد كبيرة من الناس".
يضيف: "بينما يتم اللجوء إلى هذه الطرق البائسة لإدخال المساعدات، شاهدت عبر حسابات رسمية لجيش الاحتلال على مواقع التواصل الاجتماعي من يتغنى بهذا الإنجاز. الكل يستهين بنا، والأولى أن يتم تأمين طريق بري لوصول المساعدات، ووجود فرق دولية للمساعدة على وصولها وتوزيعها على كل الناس. لكن كل هذه الأمور المنطقية غائبة تماماً. إيصال المساعدات بهذه الطريقة يتسبب بمشاكل، ويكلفنا أرواحاً بسبب المخاطرة الكبيرة خلال انتشالها، فطائرات الاحتلال لا تغيب عن السماء، وتستهدف الجميع، واستمرار الإنزال الجوي يعني وقوع ضحايا جدد. شلال الدم لا يتوقف، والدول العربية متخاذلة، والمجتمع الدولي صامت".
ولا تصل المساعدات إلى المنطقة المحاصرة في الشمال منذ قسم الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة إلى قسمين جنوبي وشمالي، ويحظر الوصول إلى المنطقة الشمالية بسبب تواجد جنود وآليات الجيش الإسرائيلي، خصوصاً في المناطق الشرقية من مدينة غزة، وكذلك منطقة شمالي القطاع.
يقول إيهاب علي، من منطقة الجلاء بمدينة غزة: "ما وصل إلينا من صندوق المساعدات المصرية، هو كرتونة واحدة تضم كيلو سكر، وكيلو عدس، وأكياس معكرونة وملح، وعلبة واحدة من الجبن، وأخرى من الحلاوة الطحينية، وثلاثة كيلو طحين، وفي الوضع الطبيعي، قد تكفي هذه الأشياء عائلتي المكونة من ثلاثة أفراد لأيام معدودة، لكن بسبب الأوضاع الحالية، فإن المنزل يضم أكثر من 30 فرداً. تسلمنا سابقاً كرتونة من المساعدات الأردنية، وكانت تضم معلبات الأرز الجاهز الذي يحتاج فقط إلى التسخين، ومعلبات من المنسف، وهو طبق يتكون من الأرز والجميد، لكن العلبة كانت تكفي شخصاً واحداً، ولا تشبعه، وكل ما حصلنا عليه منها لم يكف المتواجدين في المنزل سوى ليوم واحد".
يضيف علي لـ"العربي الجديد": "ليس لدى سكان قطاع غزة رأي في أي شيء، ونتعرض للإهانة والإبادة في وقت واحد. نريد إيقاف الحرب بأي شكل، وأن تدخل المساعدات الكافية إلى شمالي القطاع، ويسمح بتوصيلها وتوزيعها بشكل عادل، وتصل إلى كل الناس، فلا فارق بين الفقير والغني، والكل يعانون، ونحن على بعد أيام من حلول شهر رمضان، لكن لا يوجد شيء لنأكله".