في خطابٍ شهير له يوم 18 أغسطس/آب 2013 للردّ على الانتقادات الدولية الإنسانية والسياسية على خلفية مجزرة فضّ اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكان حينها وزيراً للدفاع: "لا والله ما حكم عسكر"، محاولاً دفع الاتهامات الموجهة إليه، بتهيئة المشهد السياسي والمجتمع المصري لحكم عسكري طويل الأمد. هذا الحكم وضع السيسي حجر أساسه بانقلاب 3 يوليو/تموز 2013 (عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي)، ورفع بنيانه بسيطرته على المجلس الأعلى للقوات المسلحة واستقالته من الجيش في مارس/آذار 2014 ليتولى الرئاسة رسمياً بعدها بشهرين.
استمر السيسي في ترسيخ دعائم حكمه بالفوز بفترة رئاسة ثانية في العام 2018، ثم تعديل الدستور العام الماضي، ليضمن بقاءه في الحكم على الأقل حتى العام 2030. لكن كلّ هذا لا يبدو كافياً لتنفيذ خططه لمصر كما يريد أن يراها ويحكمها لأجلٍ غير مسمى، بل ويورثها لمن يختاره، ممن ينتمون للجيش وحده، أو من ترضى عنه قياداته.
فالتعديلات التي وافق عليها مجلس النواب الموالي للسيسي يومي الأحد والإثنين الماضيين - دونما أي اعتراض- والتي تتضمن مجموعة من القوانين ذات الطبيعة العسكرية، لا تكرس فقط عسكرة الدولة المصرية وسيطرة السيسي على الحكم، بل تصنع نظاماً جديداً محكماً يجعل السيسي متحكماً وحيداً بالجيش وقيادته من ناحية، وممسكاً بتلابيب السلطة بواسطة الجيش نفسه من ناحية أخرى. ويرسي السيسي بذلك نظام حكم يجمع بين الديكتاتورية الفردية والشمولية العسكرية، ويعتبر بهذه الصورة جديداً على مصر، حتى قياساً بالسنوات التي تلت ثورة 23 يوليو/تموز 1952. فالرئيس الراحل جمال عبد الناصر ظلّ حريصاً طوال فترة حكمه على إبعاد الجيش عن السلطة السياسية، في إطار علاقته الملتبسة بصديقه المشير عبد الحكيم عامر. وحتى بعد نكسة 5 يونيو/حزيران 1967 وتصفيته لأتباع عامر، ظل عبد الناصر متمسكاً بالاعتماد على رجاله الذين انتقلوا من المؤسسة العسكرية إلى قصر الرئاسة والاستخبارات والاتحاد الاشتراكي وغيرها من المؤسسات.
يرسي السيسي من خلال التعديلات الجديدة نظام حكم جديد يجمع بين الديكتاتورية الفردية والشمولية العسكرية
وزاد حرص خلف عبد الناصر، الرئيس الراحل أنور السادات، على إبعاد الجيش عن السلطة السياسية، وإن استمر في استجلاب شخصيات من المؤسسة العسكرية للاعتماد عليها في شؤون الحكم، مثل خليفته حسني مبارك، جامعاً بينهم وبين شخصيات أخرى في هيئة سياسية جديدة هي الحزب الوطني الذي حكم لأكثر من 33 عاماً.
وفي عهد مبارك، زادت المسافة اتساعاً بين الجيش والحكم، خصوصاً في العقد الأخير قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، حيث زاد اعتماد مبارك على نجله جمال ورجال الأعمال المقربين منه، وهو ما أقلق قيادة الجيش برئاسة وزير الدفاع الأسبق المشير حسين طنطاوي. وأدى طنطاوي دوراً رئيسياً في تحديد موقف الجيش من مبارك خلال أحداث الثورة، فتمّ خلع الأخير استجابة لمطالبات الشعب، وفي الوقت ذاته قفز المجلس العسكري على السلطة، باذلاً جهده على مدار عام ونصف للالتفاف على باقي أهداف الثورة والتحكم في السلطات والتدخل في وضع الدستور.
وبعد عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، وفي مرحلة تهيئة الأوضاع التشريعية والسياسية لترشح السيسي للرئاسة، تقدم الأخير بنفسه إبان كونه وزيراً للدفاع بعددٍ من القوانين التي أصدرها مباشرة الرئيس المؤقت عدلي منصور، لضمان انتقال السلطة بصورةٍ سلسة له بعد خلعه الزي العسكري، وطمأنة قيادات الجيش في آن. وبناءً عليه، أصدر السيسي قانوناً بتنظيم تشكيل واختصاصات المجلس الأعلى للقوات المسلحة وفقاً لدستور 2014، وكذلك قانوناً آخر بإنشاء مجلس الأمن القومي، ورسّخ القانونان وضعية استثنائية للمجلس العسكري برئاسة وزير الدفاع. وفي المقابل، جعل السيسي موافقة المجلس العسكري شرطاً لتعيين وزير الدفاع الذي يختاره رئيس الجمهورية. وعلى الفور، وبمساعدة صهره مدير الاستخبارات الحربية آنذاك محمود حجازي، استطاع السيسي الإطاحة بعدد كبير من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وعيّن مجموعة جديدة من الشخصيات مأمونة الجانب. ثم كان من الطبيعي استصدار موافقة المجلس بسهولة على استقالة السيسي وفقاً للقواعد العسكرية المعمول بها في قانون شروط الخدمة والترقية. هذا الأمر لم يتبعه في ما بعد منافسه الفريق سامي عنان رئيس الأركان الأسبق، عندما قرر منافسة السيسي في العام 2018 ليعاجله الأخير بصفعة بسلاح المجلس العسكري، باعتبار أن عنان ما زال "ضابطاً تحت الاستدعاء"، شأنه شأن باقي أعضاء المجلس العسكري الحاكم بعد الثورة، وبالتالي لم يكن يجوز له الترشح دون أن يستقيل أولاً.
على خلفية هذه الواقعة، ولتأمين المستقبل ضد ظهور أي أخطار أخرى شبيهة بما فعله عنان، ولهدف ثان أهم هو ترسيخ مكانة المجلس العسكري في ميدان السياسة المصرية كقائم على حماية النظام عند اللزوم، ودافع لمرشح رئاسي إذا اقتضت الحاجة، تتكامل التعديلات الأخيرة التي وافق عليها مجلس النواب هذا الأسبوع.
ووفق ذلك، تمّت إضافة فقرتين للمادة 103 من قانون شروط الخدمة والترقية (والتي تحظر العمل السياسي للضباط)، تنص الأولى على "عدم جواز الترشح للضباط، سواءً الموجودين بالخدمة أو من انتهت خدمتهم بالقوات المسلحة لانتخابات رئاسة الجمهورية أو المجالس النيابية أو المحلية، إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة"، وبالتالي يصبح المجلس العسكري قيّماً على الإرادة السياسية للضباط الحاليين والسابقين، يسهل لمن شاء ويمنع من يخرجون عن المطلوب. أما الفقرة الثانية فتسمح (صورياً) لمن يمنعه المجلس العسكري بـ"الطعن على قراره أمام اللجنة القضائية العليا لضباط القوات المسلحة خلال 30 يوماً، ويكون قرارها في الطعن نهائياً، فلا يجوز الطعن في قرارات اللجنة أو المطالبة بإلغائها بأي وجه من الوجوه أمام أيّ هيئة أو جهة أخرى". والجدير ذكره أن هذه اللجنة يعينها وزير الدفاع، رئيس المجلس العسكري.
قنّن السيسي سيطرته العملية على المجلس العسكري، والقائمة واقعياً منذ ست سنوات
ولا يمكن فصل هذه المادة التي تدخل المجلس العسكري للمجال السياسي، رسمياً وتشريعياً للمرة الأولى في تاريخ مصر، عن مادة أخرى أضيفت إلى قانون مجلس الأمن القومي، والتي تجعل المجلسين معاً قائمين على استمرار نظام السيسي الحاكم بتشكيله وشروطه ونظامه وهيئته واستبعاد معارضيه وضمان عدم تغيير قواعد اللعبة السياسية.
وتنص المادة على أنه "في الأحوال التي تتعرض فيها الدولة ومدنيتها وصون دستورها وأمن البلاد وسلامة أراضيها والنظام الجمهوري والمقومات الأساسية للمجتمع ووحدته الوطنية لخطر داهم، يجتمع مجلس الأمن القومي مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في اجتماع مُشترك برئاسة رئيس الجمهورية لاتخاذ تدابير وآليات عاجلة لمواجهة ذلك". ويدعو رئيس الجمهورية المجلس بتشكيله للانعقاد في الأحوال المشار إليها، أو بناءً على طلب نصف عدد الأعضاء بالتشكيل المشترك (أي في حالة غياب الرئيس لأي ظرف)، ويُدعى لحضور الاجتماع المُشترك كل من نائب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الشيوخ، ومن يحدده رئيس الجمهورية من رؤساء الجمهورية السابقين، ويكون له حق في التصويت. كما تكون مداولات المجلسين بالتشكيل السابق سرّية، وتصدر قراراته بأغلبية الأصوات، وعند التساوي يُرجح الجانب الذي منه الرئيس، وتكون القرارات الصادرة بهذا التشكيل نافذةً بذاتها وملزمة للكافة ولجميع سلطات الدولة".
وبدمج النصوص السابقة سوياً، نجد أن السيسي يمهد لتشكيل كيانٍ يشبه مجلس الدولة الصيني، أو مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني، برئاسته، وبصورة تضمن تحكمه الكامل –وبنفسه - في الأعضاء والاختصاصات. كما يتحكم السيسي بذلك بما سوف يصدر عن هذا الكيان المشترك الذي يجمع بين أعضاء مجلس الأمن القومي (رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب ووزراء الداخلية والخارجية والعدل والمالية والصحة والتعليم والاتصالات ورئيس الاستخبارات العامة ورئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب) وبين أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
فبالنظر لتعديل آخر تمّ تمريره، يتبين أن السيسي قنّن سيطرته العملية على المجلس العسكري، والقائمة واقعياً منذ ست سنوات، والتي ترجمت بصورة صريحة عندما عيّن وزير الدفاع الحالي محمد زكي بدلاً من سلفه صدقي صبحي منذ عامين.
فبعدما كان قانون المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحالي يحصر العضوية في عددٍ معين من القيادات بصفاتهم العسكرية، أضيفت فقرة "تجيز لرئيس الجمهورية بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة ضمّ أعضاء للمجلس من قيادات القوات المسلحة وفقاً للحاجة". ويعني ذلك تحكم السيسي المطلق في عدد الأعضاء واتجاهاتهم أيضاً، واستطاعته - في أي وقت تتأزم فيه الأمور- إدارة الدفة لصالحه.
وبينما كان القانون ينص على اختصاص المجلس العسكري بالموافقة على تعيين وزير الدفاع لدورتين رئاسيتين كاملتين بعد دستور 2014، تمّ التعديل ليكون المجلس مختصاً بـ"الموافقة على تعيين وزير الدفاع طبقاً للقواعد والإجراءات التي يحددها رئيس الجمهورية"، أي التي يضعها السيسي، وذلك طبقاً للدستور المعدل العام الماضي.
وتعكس مبادرة النظام لتلك الخطوة استمرار افتقاره للظهير السياسي المتماسك إلى حد اعتماده فقط على مجموعة من العسكريين والحكوميين لاتخاذ قرارات سياسية بحتة، من البت في ترشح أشخاص للبرلمان والرئاسة، وحتى التدخل لحماية الوحدة الوطنية.
لكن السيطرة التامة التي يطمح إليها السيسي لا تكتمل إلا بتسليط سيف المحاسبة على جميع المسؤولين في المجلسين، الأعلى العسكري والأمني القومي. ولخدمة هذا الهدف، استحدث الرئيس مادة تسمح بمحاسبتهم جميعاً على مجموعة من الجرائم المطاطة التي قد تشمل أي أفعال غير مرغوبة، وهي: ارتكاب أعمال من شأنها إفساد الحكم أو الحياة السياسية أو النظام الجمهوري أو الإخلال بالديمقراطية أو الإضرار بمصلحة البلاد أو التهاون فيها، وإفشاء أسرار اجتماعات المجلس أو أي أسرار تتعلق بسلطات الدولة وأمنها القومي، والتدخل الضار بالمصلحة العامة في أعمال سلطة من سلطات الدولة. وإذا تم توجيه اتهام إلى أحد الأعضاء بذلك، يشكل رئيس الجمهورية لجنة للمحاسبة والتحقيق، توقع عقوبة أو أكثر تتدرج من الحرمان من حضور عدد معين من الجلسات، وحتى الحرمان من تولي الوظائف أو المناصب العامة القيادية لمدة 5 سنوات.
وسّع السيسي أدوار المستشارين العسكريين في المحافظات وجعل تعيينهم إجبارياً بمساعدين لهم
وإلى جانب عسكرة الحكم، أدخل النظام تعديلاً جديداً على قانون الدفاع الشعبي الذي أصدره عبد الناصر بعد النكسة، يدعم تواجد المستشارين العسكريين للمحافظات الذين كانوا دائماً يعينون بتنسيق بين الجيش والمحافظين منذ سبعينيات القرن الماضي في فترة خوض مصر حروبها ضد إسرائيل، ونشاط ما كان يسمى بقوات الدفاع الشعبي، ووجود دور للمحافظات في حشد واستدعاء المتطوعين والمجندين المسرحين. وبعد الحروب كان دور المستشارين العسكريين مقتصراً على مسائل شكلية تخص العلاقة بين الجهات الحكومية التابعة للمحافظ والجيش، لكن التعديل الجديد يجعل أولاً تعيينهم إجبارياً بمساعدين لهم، أي أنه ستكون للجيش هيئة ممثلة في كل ديوان محافظة.
وامتداداً لاعتماد السيسي على الجيش والجهات السيادية الأخرى، مثل الداخلية والرقابة الإدارية، للعب أدوار غير تقليدية، في المجالات الاقتصادية تحديداً، فسوف يكون للمستشار العسكري اختصاصات نشطة مثل: المتابعة الميدانية الدورية للخدمات المقدمة للمواطنين، والمشروعات الجاري تنفيذها، والتواصل الدائم مع المواطنين في إطار الحفاظ على الأمن القومي بمفهومه الشامل. كما تخدم الاختصاصات تحقيق موجبات صون الدستور والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة، والتنسيق مع الجهات التعليمية على مستوى المحافظة لتنفيذ منهج التربية العسكرية وفقا للقواعد التي تحددها وزارة الدفاع، وهذا الدور الأخير كان الوحيد الذي يلعبه المستشار العسكري من بين ما أُسند له.