الترجمةُ أثراً مفتوحاً

16 نوفمبر 2019
(مقطع من عمل لـ خوان ميرو)
+ الخط -

القراءة اكتشافٌ متواصل لعوالِم واقعية وتخييلية، والتذاذ بتجارب فردية وجماعية، وإفادة من معارف متنوّعة تكتنزها نصوصٌ تتّصف بكونها فضاءً "متعدّداً"، حسب دولوز، تسكنه الرغبات والأحلام والتأويلات وتخترقه نصوصٌ أخرى أيضاً، خصوصاً عندما تكون نصوصاً أدبية، لِما تتّسم به من تخلُّق دائب.

ويُعَدّ الإيطالي أومبرتو إيكو من الأوائل الذين انتبهوا إلى هذه السِّمة التي تطبع، ليس النصوص الأدبية وحدَها، بل الأعمال الفنية الأخرى، التي من بينها الآثار الموسيقية، والتي انتبه إلى أنّ مؤلِّفيها يلجؤون إلى أن يتركوا فيها هوامش وفراغات يصير بوُسع القُرّاء، الذين هم عازفون هنا، ملؤها بإضافات وتنويعات وتوشيات، فتغدو المعزوفة الواحدةُ أطول حين عزْفها منْ قِبَل هذه الأوركسترا مِنْ عزف أوركسترا أخرى، أو مختلفة عنها.

ويُسمّي إيكو، في كتابه "الأثر المفتوح"، هذه الحال "الانفتاحَ"، نظراً "لأنَّ كلَّ أثر فنّي وإنْ كان مكتمِلاً ومُغلَقاً من خلال اكتمال بنيته المضبوطة بدقّة، هو أثر "مفتوح" على الأقلّ من خلال كونه يُؤَوَّل بطرق مختلفة، دون أنْ تتأثَّر خصوصيته التي لا يُمكن أنْ تُختزل"، بمعنى أنَّ الأثر الفنيَّ كيفما كان نوعُه يُهيَّأ من قِبَل مؤلِّفه ليصير حمَّالَ أوجه، أي قابلاً للرِّضى بأنْ تتعدَّد قراءتُهُ التي "تنبني على المشاركة النظرية والعقلية للقارئ الذي يجب أنْ يؤوِّلَ بشكل حُرٍّ أثراً فنياً سبق تنظيمُه، ويتوفّر على بنية معيَّنة"، وهي العملية التأويلية التي يشترك فيها القارئ والمترجِم، بإخضاعِهما الأثرَ الفني لها.

ويتفوّق المترجمُ على القارئ العادي في هذه العملية، لأنه ينفرد بنعت القارئ المثاليّ، الذي لا يكتفي بالقراءة السهلة والمستمتعة، بل تجده يتوقَّف عند كلِّ كلمةٍ أو عبارة أو صورة أو قولة مأثورة أو سواها، فيُقلِّب أوجُهها في سعيٍ حثيث منه إلى القبض على معناها ومبناها كليهما، لتحقيق المؤالَفة بين الشكل والمحتوى.

من هنا يتأكَّدُ لنا أن قضايا الترجمة هي بالفعل من قضايا الأدب، على اعتبار أنها كتابة تُعيد إنتاج النصوص بكل حمولتها المذكورة، وتُضيف إليها تأويلاً جديداً يَصْدُر عن المترجِم أساساً، فتُقْرأ الترجمة بدورها، وكأنها مُضاعَفة للنص الأصل، لأنه لا يبقى نصاً لصاحبه وحدَه، بل يمتزج فيه صوتُ المؤلِّف الأصل ووجهُهُ مع صوت المترجِم ووجهه، فيَصيرُ الأخيرُ شريكَ الأوّل في الأثر.

لذلك نجد من المؤلِّفين من يطمح إلى أنْ يُترجِمَ له مترجِمٌ بعينه يطمئن إلى كفاءته التأويلية دون آخرين، مثلما حدَث لـ إدْغَارْ أَلَانْ پُو مع الشاعر شارل بودلير الذي نقله إلى الفرنسية في ترجمة حققتْ للمؤلِّف انتشاراً واسعاً، ونوَّه بها كثيرون منهم هارولد بلوم وبورخيس، وكما حصل لـ غابرييل غارسيا ماركيز مع مترجِم "مائة سنة من العزلة" غريغوري راباسا إلى الإنكليزية، بل إنَّ بورخيس نوَّه بمترجِميه في حوار معه عندما سُئلَ عمّا فعل مُترجِموه بآثاره، فرد: "كلَّما قرأتُ ترجمة لي أقول: يا سلام! ليتني كنتُ قد كتبتُ بهذه الصيغة؛ لا شك في أنّ المترجِمين قد ارتقوا بنصوصي!"، وهذا أمر طبيعي، لأنهم يفتحون أمامَها مسالك لم تكن لتخطر ببال مؤلِّفيها.

يتوسَّل المترجِم بالتأويل أثناء عبوره بنصوص ثقافية أصلية - مَصوغةٍ في بنيات لسانية غريبة - إلى ضفاف ثقافية مختلفة. ويُعرَفُ عن هذه النصوص أنها "أعمال غير مكتملة، يُقدِّمُها المؤلِّف إلى من يؤوِّلها"، وأنها تمرّ أثناءَ هذه الرحلة الشاقة والممتعة بتضاريس متنوّعة، وتواجه صِعاباً عديدة، قَبل أنْ تصل نصوصاً قابلة للقراءة أي للاستهلاك في اللغة المُضيفة.

ويُفتَرض في المترجِمِ، هو الآخر، بأنّ يُقِرّ بأنَّ جَهدَه ليس سوى تأويلٍ وإمكانِ تحقُّقٍ من بين تأويلاتٍ كثيرة؛ منها ما أُنجِز ومنها ما ينتظر، بحُكْم السِّمة الارتحاليّة التي تطبع عملَه، والتي تجعله في سيرورة دائبة نحو اكتماله، لذلك نرى ضرورةَ أن يتقبَّل بأريحية رؤيةَ عمَلٍ سبق له أنْ ترجَمه تُعاد ترجمتُه أكْثرَ من مرَّة، في حياة المترجِم نفسه، فالترجمة كما أصلُها لا يُمكن إلا أنْ تكون نصّاً منفتحاً ومفتوحاً.

المساهمون