يُفتن الشاعر بمعنى ما من معاني الشعر التي ينتجها في قصيدة فيلجأ، عامداً أو لاواعياً، إلى استثمار هذا المعنى بإعادة إنتاجه في قصيدة، أو ربّما في قصائد، تالية. وما يحصل بمثل هذا الاستثمار وإعادة الإنتاج، بالنسبة لشاعر محترف، هو العمل على توليد صور أخرى للمعنى الذي كان قد ابتكره بموضع شعري من تجربته، وفُتن به، أو الذي يحتاج إليه في موضع شعري آخر غير الموضع الأصل الذي ولد به المعنى البكر.
يحصل مثل هذا في حال (الأخذ) من الآخرين أيضاً. يمكن لـ(الأخذ) من الآخرين أن يكون فعلاً لصوصياً لاأخلاقياً، لكن يمكن اعتماده في حالات معينة كوسيلة ثقافية شعرية للتفاعل في ما بين النصوص. نحن هنا لسنا بصدد الكلام عن الجانب الأول، جانب سرقات الشعر والانتحال فيه، فهذا شأن آخر، إنما الحديث عن (الأخذ) كتفاعل وتنافذ، ما بين نصوص الشعر، بصوره الأكثر فناً وأخلاقاً.
خبرة الشاعر ومهارتُه تساعدانه في توليد صورة أو صور أخرى لمعنى من المعاني، وكلما نأت الصورة عن الأصل ووهن الأثر، الذي يوصل ما بينهما، كلما تضاعفت أصالة عمل الشاعر فيها، والعكس صحيح أيضاً.
المعنى الشعري، أي معنى، هو بناء تعبيري قائمٌ على فكرةٍ ليست بالضرورة أن تكون فكرةً شعرية؛ وسواء في حال (الأخذ) من آخرين، أو في توليد صورٍ جديدة من معنى شخصيٍّ أصيل، فإن الفكرةَ التي تقف وراء إنتاج معنى شعري تظل ثابتة (باختلاف النصوص)، بينما شكلُ المعنى الشعري هو ما يتغيّر من نصّ مؤثّر إلى سواه مما يؤثر فيه، ودرجة التغيير الحاصل هي التي تتحكم بها وتقررها خبرات الشاعر ومهارته.
في العادة، في كلامنا، في النثر، لا فكرة بلا معنى. وفي النثر فإن كليهما، الفكرة والمعنى، متلازمان ونثريان، بينما في الشعر من الممكن أن تنطلق من فكرة ذات معنى نثري لتخرج منها بأكثر من معنى شعري. المفارقة بين الفكرة، كنثر محفِّز ومنتج، والمعنى، كشعر مستحصَل، هي أساس عمل الشعر لانتاج معنىً شعريٍّ، ولا شعر بلا معاني شعرية.
ولكن، وبهذه الحدود التي نحن بصددها وفي إطارها، ما الفكرة، وما المعنى الشعري؟
لنجرّب العمل في الشعر؛ لنحاول الوقوف على دلالات الفكرة والمعنى الشعري من خلال أمثلة الشعر نفسه. الوسيلة الأفضل للتعرف على الشعر هي في نصوص الشعر، في ما يهبه الشعر نفسه من تجارب نصية. لنأخذ هذا البيت الشعري مثالاً:
أتتركني وعين الشمس نعلي
فتقطع مشيتي فيها الشراكا
وهو لأبي الطيب المتنبي، من آخر قصيدة قالها وسمعت منه (حسب مؤرخي الأدب) قبل أسابيع من مقتله، وكانت قصيدة (فدا لك من يقصر عن مداكا) التي قالها في توديع عضد الدولة والثناء عليه، ويعد فيها بالرجوع إليه من السفر الذي كان قد قتل أثناءه.
في هذا البيت تقوم شعرية المعنى على فارق المسافة بين مكانين؛ مكان الواقع، صلة الشاعر بالممدوح، والمكان الشعري الذي يكون فيه عين الشمس نعلاً للشاعر. إنهما مكانان؛ أرضيٌّ واقعي، وسامٍ متعالٍ شعرياً. في هذه المفارقة تكون عين الشمس استعارة للتعبير عن هذا التسامي.
يستعيد التبريزي في شرحه البيت شرحاً سابقاً كان قد وضعه المعرّي الذي رأى أن البيت يبدأ بـ"استفهام ليس عن جهل. وإنما هو تقرير وإعلام أن ما يفعله خطأ. لكنه مضطر إلى فعله، كما تقول للرجل: أتكرمني هذه الكرامة وأفارقك. أي أن ذلك لا يجب ولا يحسن، لأنك قد رفعتني حتى جعلت عين الشمس نعلي، وأمشي فيها مشياً يقطع الشراك"، والشراك هي خيوط النعل.
الفكرة النثرية هنا هي التعبير عن عظمة قيمة المجد الذي يكون فيه المرء الشاعر، من خلال علاقته بالممدوح ما دمنا بصدد استشهاد بنص وواقعة محددة، وهو بيت المتنبي الذي يفخر ويثني به على صلته بالممدوح عضد الدولة. وللتعبير عن هذه الفكرة جاء المتنبي بالمعنى الشعري الذي جعل بموجبه من نعل الشمس، في عليائها، نعلاً له.
وهذا معنى شعري لم يُبتَكر بهذا البيت، فقد سبق للمتنبي أن صاغه بصور أخرى في نصوص شعرية سابقة، للتعبير عن الفكرة النثرية نفسها وإن تكررت بمناسبات وظروف مختلفة.
وعند شرحهم البيت لم يشر التبريزي، ولا قبله أبو العلاء، ولا سواهما من شراح المتنبي، لهذا، ولم يحيلوا، كما هو دأبهم، البيتَ إلى مصدر نشأة معناه الشعري، وكان لهم مبررهم في عدم الإشارة إلى ربط الصورة الأخيرة للمعنى بالصورة أو الصور السابقة التي كانت قد جاءت بها، وسنقف عند هذا المبرر بعد قليل.
***
في قصيدة أخرى هي (أمن ازديارك في الدجى الرقباء)، وكانت في مدح أبي علي هارون بن عبد العزيز الأوراجي الكاتب، وهي بالتأكيد سابقة على قصيدة توديع عضد الدولة (فدا لك من يقصر عن مداكا)، ما دامت هذه آخر ما قال المتنبي قبل مصرعه، في قصيدة مدح الأوراجي يأتي هذا البيت:
فبأَيِّما قدمٍ سَعيتَ إلى العُلا
أُدُمُ الهلالِ لأَخمَصَيكَ حذاءُ
و(أدُم) جمع أديم (الجلد)، وهو جمع شاذ، و(أُدُمُ الهلالِ) هنا استعارة تكافئ استعارة (عين الشمس) للتعبير عن معنى شعري، هو نظير المعنى الذي جاء في قصيدة الثناء على عضد الدولة. يختلف المعنى، شعرياً، لكنّ الفكرةَ النثرية التي تأسس عليها المعنيان واحدةٌ. من الاستعارتين المتقاربتين (عين الشمس) و(أدُم الهلال) جاء المعنيان الشعريان بصياغتيهما المختلفتين.
لقد اختلف اثنان من كبار شراح المتنبي في طبيعة هذا المعنى الذي جاء به البيت الأخير، بيت (أدُم الهلال)، وهما ابن جني والمعري. كان اختلافهما ينصب على (تفسير) معنى البيت. يقول ابن جني أن المتنبي "تعجب من القدم التي تسعى بها إلى العلا، ثم دعا له فقال (أدم الهلال لأخمصيك حذاء)، كأنه دعا للقدم"، لكن الشيخ المعري يعارضه في ذلك فيقول: "ذكر (أي ابن جني) أن قوله (المتنبي) أدُم الهلال، دعاء للمدوح، وليس في ذلك فائدة، وإنما الشاعر مخبر للممدوح، يقول: فبأيما قدم سعيت، أي في أي حال طلبت المعالي، فأنت رفيع القدر، كأنَّ أدم الهلال حذاء لأخْمَصَيك، ولم يرد معنى الاستفهام في أول البيت. وإنما أراد في أي حال طلبت المكارم، فأنت في غاية لا يبلغها غيرك".
المعري الشاعر أقرب، بشرحه، إلى المعنى الشعري من تصوّر ابن جني، العالم اللغوي، برغم أن ابن جني كان يعود إلى الشاعر ويسأله في حال أي التباس، سواء بالمعاني أو باللغة. ولعل البقية من الشراح الآخرين لم يذهبوا إلى غير هذين الشرحين، مع تبنٍ واضح، في معظم الشروح، لشرح ابن جني، ربما لكونه الأقدم والأقرب إلى المتنبي. تكرار شروح المتنبي من قبل مختلفين متأخرين لا يتعدى كونه تكراراً لجهود السابقين من الشراح، وبالأخص ابن جني وأبي العلاء.
الاستعارة متقاربة لكنْ المعنيان مختلفان. لا تقتصر محاولة إقامة صلة ما بين المتداني والمتعالي، وهي فكرة هذه المعاني الشعرية، على معنى شعري واحد. يختلف الأمر في الشعر؛ فالأفكار هي المطروحة في الطريق بينما المعاني الشعرية هي التي تستحصل بالكدّ الشخصي.
***
كان ابن جني هو أول من أشار إلى الصلة ما بين البيتين؛ بيت الثناء على عضد الدولة وتوديعه، بآخر قصيدة قالها أبو الطيب، والبيت الذي جاء في قصيدة سابقة على تلك، وهي في مديح أبي علي هارون بن عبد العزيز الأوراجي الكاتب، وهي إشارة ظلت تتكرر في جميع الشروح. كان ابن جني يتحدث عن (تشابه) المعنيين، وكذلك معظم الآخرين، لكن ابن المستوفي في شرحه (النظام في شرح شعر المتنبي)، تحدث عن (تكرار) المعنى، ورأى أن المتنبي "كرر هذا المعنى في شعره كثيراً"، فيضيف للبيتين بيتا ثالثا:
من كان فوق محلّ الشمس منزله فليس يرفعه شيء ولا يَضَعُ
والتشابه وتكرار المعنى، بلغة الشرّاح القدامى، أو تنويعه لدى الشاعر نفسه، وهو هنا المتنبي، يمكن مصادفته ما بين أكثر من نص شعري لأكثر من شاعر.
في حال هذا المعنى، وهذين الشاهدين اللذين بين أيدينا، يبالغ بعض من الشراح فيقيمون من الصلات ما بين المعاني الشعرية ما لا أساس لها سوى مصادفة مفردة أو سواها من القرائن التي لا يعتد بها. يأتي ابن وكيع بكتابه (المنصف للسارق والمسروق منه) لكثير ويرى أن معنى المتنبي، بيته، جاء من قول كثير عن عزة:
وسعى إليَّ بِعَيبِ عَزَّةَ نسوَة
جعلَ الإلهُ خدودَهنَّ نِعالَها.
وهي مقاربة غير منطقية، وهما غرض ومعنى بعيدان، لكن ابن جني يقيم مقاربة ما بين بيت المتنبي وبين ما قاله الأعشى:
هِرْكوْلَةٌ فُنقٌ دُرمٌ مرَافِقُهَا
كَأَنَّ أَخمَصَهَا بِالشّوْكِ مُنْتَعِلُ
وهي مقاربة معقولة، من حيث التركيب والقاموس، لكنها غير منطقية، هي الأخرى، من حيث المعنى الشعري المختلف.