الأخوة.. وحروب الفراغ المعنوي

15 يونيو 2017
+ الخط -
1- على عكس الحروب كلها، يستدعي عبد الفتاح السيسي نفسه إلى حرب بعيدة، يشتاقها منذ ثلاث سنوات من دون أن يعرف حجم فاتورتها، وكأن هناك هاجساً يقول له: "كلما حاربت تثبت في السلطة، وضاعت دماء خصومك هدراً". يحاول أن يهرب إلى الأمام في غبار الحرب، أي حرب، حتى وإن مصنوعةً في بير السلم، كالخمر المغشوشة أو الأسلحة البسيطة في ورش الصف أو أطفيح. يحاول السيسي ذلك جاهداً، مرّات على ليبيا، الدولة الممزقة، والتي قامت بثورة، وكان يجب أن يقف بجوار شعبها المسلم، إلا أنه اختار أن يتحالف مع بقايا النظام البائد في القاهرة، تحت راية أحمد قذاف الدم وفلوسه (وكيل النظام والفلوس، والمعتمد من أيام حسنين هيكل). فهل من حربٍ أخرى طويلة تيسر لذلك الفتى بقية أحلامه؟
2- وحتى لو قلنا مع بورديو، واصفاً الحرب: "إنها مثل استكمال غبار السياسة بوسائل أخرى"، فهل يدرك السيسي هذا المعنى حقاً؟ هذا الذي لم يمر على درهم سياسة واحد خلال رحلة ظهوره التي باركها هيكل، وهي في بداياتها، ثم أطلق لها البخور شفقة عليها "يكاد لا ينام" من كثرة الهمّ السياسي بالطبع، طالما الوصف هو وصف هيكل. وبالطبع بساعته الحساسة، رصد هيكل عدد ساعات قلق السيسي، فوجدها غير كافية للراحة، فأرّق هيكل هذا المعنى وآلمه بالطبع، فذكره في أحاديثه.
وهل عرف السيسي السياسة، ودقّ بابها أصلاً، كي يبحث عن الأبواب الأخرى أو يطرقها؟ وهو الذي بدأ حياته في المشهد "بتعليق العمل بالدستور" ثم توالت مذابحه. فكيف ينام القاتل إلا على طبول الحرب. الحرب هدهدة مؤقتة للقاتل، وأفقٌ غامضٌ مصنوعٌ لتثبيت المشهد على غبار حرب، أي حرب. حرب وهروب مصنوع، كي تتآكل المذابح وتمحي بعضها بعضها على نشيد الحرب. وهل لذلك يسعى الرجل إلى زراعة حربٍ له في آسيا، وهو في إفريقيا، حربٍ بين أشقاء تصاهروا في الدم من قديم الزمان، حرب بين أخوة.
هذا هو الهروب حتى إلى اللامعنى، وأحياناً تصنع الحرب تحت السلم في لحظات الافتقار للمعنى، طالما هناك جنرالاتٌ لم يحاربوا من نصف قرن إلا قليلاً، وطالما هناك كاميرات، هل هو البحث عن المعنى وسط غياب المعنى، وسط الفراغ من المعنى. ولكن، ماذا يفعل فاقد المعنى أمام عدة حربٍ تآكلت وصدئت من نصف قرن إلا قليلاً، لا شيء سوى أن يشتري الجديد من دماء شعب شبه جائع، من دماء دولة هي (شبه دولة) على حد تعبيره هو، من دماء فقراء جداً جداً (فقرا أوي) على حد تعبيره هو. هي الحرب إذن فائدة للجنرال، ولعزوته، طالما هناك جنرالات ينتظرون اكتمال النياشين والرتب، كي يعودوا إلى زوجاتهم سعداء في المساء.
وفي النهاية، نراقب المشهد من بعيد، ونتأمل الغبار المصنوع بحنكة التجّار والمرابين وجامعي الإتاوات وزكائب الرز، أصل البلاء بالطبع ورأسه منذ بدء الخليقة، مع الذهب بالطبع، والبئر والماء، أيام كنا بشراً طيبين للخيل والطبيعة والورد والصحراء والليل، ونقول آسفين، مع الشاعر القديم الذي قال ماسكاً الجرح منذ قرون، وكأنه كان يمسك جرح هذه اللحظة تماماً:
وأحياناً على بكر أخينا/ إذا ما لم نجد إلا أخانا.
720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري