توابل الست جميلة

28 ديسمبر 2015
وجب أن أتعايش معها كل يوم (Getty)
+ الخط -
إنها الثامنة صباحاً. هبّت من المطبخ المقابل لبيتنا رائحة قوية مفعمة بالتوابل. لا بد من أنها جميلة، قلت في نفسي. كانت هذه لحظة الحقيقة الصارمة التي وجب أن أتعايش معها كل يوم. لا شيء على وجه الأرض يمكنه أن يزيل رائحة الثوم والبقدونس من الغرفة.

الرائحة في مطبخ جميلة كساعة منبّه بيولوجي. ما إن تخترق أنفي في موعدها، حتى تنتزعني من الحلم. أطلّ برأسي من النافذة، فأراها تتنقل مبتهجةً بجسمها الممتلئ بين أنواع الأطباق المختلفة. أذكر أني مازحتها ذات يوم قائلةً "رائحة الثوم والتوابل المنبعثة من ثيابي كل يوم ستقلّل فرصة حصولي على موعد عاطفي". نظرت إليّ جميلة نظرة خبيثة، ثم قالت ببرودة: "حسناً، إذا كنتِ لا تريدين أن تفوح منك رائحة التوابل، سأستبدل الثوم والبقدونس بأعواد القرفة". قالتها وهي تتمتم: "من يرغب بالزواج من فتاة قصيرة على أيّة حال؟".

يحدثني والدي عن جميلة التي شارفت على نهاية الخمسين بأنها كانت الأجمل بين أخواتها، إلى أن جاء رجل ودمّرها إلى الأبد. تزوجت منه بعدما أحبّته حباً عاصفاً. وبعد محاولات غير موفّقة للإنجاب، طلّقها ليتزوج من صديقتها. كرهت جميلة يومها العالم كله. وازدادت قسوة مع مرور الأيام، حتى إنها أصبحت تحتقر النساء.

"دخلك إنتِ بيّك شافك لابسة هيك؟ لشو مكتّرة هالقد مكياج؟". ومع أنها كانت تستمتع برؤية ذلك الخجل الذي يكسو وجوه الفتيات، وعلى الرغم من توبيخها لهن، إلا أنها كانت لا تتوانى عن تقليدهن. كانت لديها الرغبة في أن تفعل مثلهن تماماً. لذلك كان المكياج لا يفارق وجهها على الرغم من عدم تماسك عضلات خديها بسبب تقدمها في العمر.

لم أكن أعرف حقاً إذا ما كانت جميلة امرأة رائعة أم سيئة. في حيّنا لا يختلف اثنان على أنها امرأة حادة الطباع، لا تتوانى عن إطلاق العنان لغضبها في وجه كل من تقابله. هي على استعدادٍ دائمٍ للشجار، غير أنها كانت تحب الأطفال حباً جمّاً، وهذا ما كان يغفر لها بالنسبة لي.

"من يحب الأطفال لا يمكن أن يكون سيئاً". لطالما أقنعت نفسي بهذا الأمر. لقد كانت جميلة تخصّص أطفال البناية بقوالب الحلوى الشهية والأيس كريم. بحضورهم تصير شخصاً آخر غير الذي تعوّدنا عليه. عندما تصير بين الأطفال كانت تشفق وترأف وتحبّ مثل الناس الآخرين. تداعبهم وتحنو عليهم. والويل والثبور إذا رأت أماً توبّخ طفلاً أمامها. ستنهال عليها بالشتائم والسباب. أمام الأطفال وحدهم، كانت جارتنا الحادّة الطباع دوماً تنسى نفسها وتنسى العالم كلّه.

اقرأ أيضاً: عندما صار تشيخوف طنجرة ضغط
دلالات
المساهمون