فاروق الباز: نسينا فنّ صناعة البشر

05 فبراير 2014
+ الخط -
بدأت الجامعة الأميركية في القاهرة الإعداد لفيلم وثائقي طويل عن رحلة العالِم المصري الشهير فاروق الباز بين طوخ وأميركا. الفيلم يقدم إطلالة على السيرة الذاتية والعلمية للعالِم الذي يشرف حالياً على دراسات جيولوجية للباحثين الشباب عن مصر تستهدف الكشف عن الكنوز المخفيّة في باطن الأرض.

الفيلم، الذي يحمل اسماً مبدئياً هو "حارس الأحلام"، يركّز على أحلام التنمية لمصر، ورعاية الباز لأحلام الشباب العلمية.

هنا حوار يركّز على الجانب الإنساني للعالِم فاروق الباز:

نصف قرن تقريباً أمضاها فاروق الباز، ابن قرية طوخ في بلاد العم سام، حيث سافر هارباً بأحلام قرر ألا يسمح لأحد أن يحبطها، واستقبلته أميركا كما تستقبل نوابغ العالم دائماً، فمنحته الفرصة ليكون.. فكان.
ارفعوا أيديكم عن أبنائهم واتركوهم لكي "يكونوا" أنفسهم!

لكن لكنة فلاح السنبلاوين، ابن الشيخ الأزهري، بقيت لصيقة بلسانه تماماً كما التصقت شمس الحقول ببشرته فلوّحتها وطبعتها وحفرت داخل القلب للنيل وناسه مكاناً، فعاش شرقي الملامح والسمات منسجماً في غربٍ لا يحترم إلا الأقوياء.

وقد احترم فاروق الباز، الذي قاد رواد الفضاء الأميركيين الى سطح القمر ودرّبهم على مواقع الهبوط حتى قال أحدهم في رحلة أبوللو عندما وطأت قدماه سطح القمر: "أشعر أني جئت الى هنا من قبل.. بعد تدريبات "الملك" لي..". إنه الملك غير المتوّج للعلم في مصر وعلى سطح القمر.

* بعد هذه السنوات من النجاح والشهرة، كيف ترى صورتك في المرآة؟

- (يضحك) لا تخدعني المرايا ولا الأضواء، فأنا رجل مصري عادي، نشأتُ في أسرةٍ محافظة تُعلي من قيمة العلم والعمل. وكان إخوتي كلهم يهتمون جداً بدراستهم. وكان والدي يحثّنا على العلم والعمل، والاجتهاد في العمل. أذكر جيداً تنبيهاته لنا بأنّ مَن يفعل شيئاً لا بدّ أن يفعله على أكمل وجه ويجتهد فيه ويجيده تمثُلاً بقول الرسول الكريم: "إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه". وكانت والدتي أيضاً تنصحنا بالشيء نفسه، وكانت تعامل البنات مثل الأولاد (الذكور) بمساواة حقيقية في كل شيء، ومنها تعلّمتُ أن أحترم المرأة وأنها في موقع التساوي مع الرجل تماماً.

عندما جاءتني الفرصة لأستكمل دراستي في الخارج، سافرت إلى الولايات المتحدة الأميركية لأحصل على درجة الدكتوراه في الجيولوجيا، وعدت الى مصر لأني لم أكن أتصوّر يوماً أن أهاجر. كانت عيني دائماً على مصر، فعدت لكي أعمل في مجال الجيولوجيا، لكن لم يقدّر لي ذلك، فسافرتُ الى أميركا مرة أخرى وعملت هناك، وكان عملاً شاقاً وغريباً عليّ.

الأزهري المستنير

أول الشخصيات التي تعلّمت منها في حياتي والدي رحمه الله، لأنه كان يحترم الإنسان الذي يملك المعرفة، وكان يؤمن أن العمل عبادة، ويقول إذا أمضى المرء يوماً دون أن يتعب في عمله فهو لم يحلل رزقه. وقد كان والدي أستاذاً في الأزهر الشريف ـ وكان الشيخ الشعراوي، رحمه الله، من تلامذته – لكنه لم يكن يترك العمل وقت صلاة الظهر ليصلي جماعة، بل كان يحرص أن يلحق بالصلاة ولكن بعد انتهاء العمل. وكان يقول: "ربنا سيسامحني لأن وقت الشغل انا أتقاضى فيه راتباً"؟ معنى ذلك أن وقت العمل مقدّس.

كما أثّرت والدتي في حياتي كثيراً. تلك السيدة المصرية الريفية صاحبة الذكاء الفطري التي ساعدتني على اتخاذ الكثير من القرارات المصيرية في حياتي. هذا الى جانب أساتذتي المصريين والأميركيين والألمان. كانوا مدرّسين مخلصين لا همَّ لهم سوى أن يوصلوا لنا أكبر قدر من العلم. وتعلّمت حتى من أخواتي البنات، وما زلت حتى اليوم أتعلّم من بناتي وحفيداتي. ولي من البنات أربع ومن الحفيدات أربع وأفرح بلقب: "أبو البنات".

رفضت التنازل عن حلم الجيولوجيا بعد ضياع حلم الطب

 

* كيف تعايشت مع بداية الغربة إلى الولايات المتحدة؟

- ذهبت الى أميركا في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1966، وكنت أعتقد تماماً أن الناس هناك لن تتقبّلني أو تحبني أو تحترمني أو تمنحني فرصة عمل جيدة إلا إذا كنتُ أحسن من جيولوجييهم. فأنا ذلك الغريب الوافد عليهم: اسم غريب، وشكل غريب ولهجة غريبة. لا بدّ أن أثبت ليس فقط أنني مثلهم ولا أقل منهم، بل أحسن منهم، لكي أظهر بينهم وأتميّز فيحترموني كما يحترمون أولادهم، وقد كان. فلمّا أثبَتُّ قدراتي، جاء النجاح بسهولة، لأن الإنسان عندما يثبت قدرته ويكون لديه ما يكفي من الثقة بالنفس وما يكفي من الولاء والانتماء إلى العمل، ويظهر هذا كله، فإن المسؤولين عن العمل يدعمونه ويرقّونه، كما رقّوني، وجعلوني مسؤولاً عن أشياء كثيرة. فقد كنت – وأنا الجيولوجي المصري - مسؤولاً عن اختيار مواقع الهبوط على سطح القمر التي كان رواد الفضاء يهبطون عليها. ليس هذا بالأمر البسيط. رواد الفضاء أميركيون ذاهبون الى القمر وعالِم جيولوجي مصري هو المسؤول عن تدريبهم، فلماذا سيقبلون بذلك إلا إذا كانوا على ثقة أنه سيدرّبهم أحسن ممّا يمكن أن يفعله الجيولوجيون الأميركيون. القصة، باختصار، أن الإنسان الذي يعمل بعزم وولاء، وانتماء بقدر استطاعته، سوف يظهر هذا للآخرين وسينجح في حياته. والشيء الأهم أن يحترم الإنسان نفسه ويثق بها، ولا يأتي احترام النفس أو الثقة بالنفس إلا بتحصيل أكبر قدر من العلم والمعرفة.

والنجاح يعتمد على سؤال بسيط هو: هل تعمل "من قلبك"؟ هل تعطي هذا العمل كل طاقتك؟ أم تعمل بمنطق "سأذهب الى العمل وأعمل على قدر ما يعطوني من راتب الشغل علي قدر فلوسهم"؟ فلو أن كل شخص رفع شعار: "على قدر فلوسهم"، فلن يكون هناك لا نجاح ولا تقدم ولا رخاء. النجاح لا يأتي إلا إذا قلت لنفسك: سأعمل وأنا على ثقة واطمئنان بأني أعمل من أجل خير البشرية كلها.

* كيف تأرجح حلمك بين الفشل والنجاح في الحياة؟

- لم أخطّط لحياتي كجيولوجي، بمعنى أني في البداية لم أختر الجيولوجيا مجالاً ولا كنت أعرف ماذا تدرّس كلية العلوم أو قسم الجيولوجيا. كنت أحلم أن أكون طبيباً. كنت أريد أن أصبح جراحاً للمخ والاعصاب، فقد كنت أحب مادة الأحياء وكنت متفوّقاً فيها، وكنت أقوم بتشريح الضفادع والسمك أثناء دراستي الثانوية.. وكان أستاذ الأحياء نفسه يقول: "الولد فاروق هيكون جراح عظيم". فحلمت واجتهدت، ولكن المجموع الذي حصلت عليه لم يكن كافياً لألتحق بكلية الطب. وكانت تلك صدمة كبيرة جداً، فقلت لنفسي: لن أسمح لهذا أن يتكرر ثانية. ولذلك، فعندما ذهبت الى الولايات المتحدة وحصلت على درجة الدكتوراه ورجعت الى مصر لأؤسّس مدرسة في الجيولوجيا الاقتصادية، ليس لها مثيل في العالم، وفشل هذا الحلم، لم أستسلم.

* ماذا عن صدمة العودة إلى مصر بعد الدراسة؟

- أحيانا يتعلّم المرء عبر الطريق الصعب. وأصعب درس تعلّمته كان عندما عدتُ من الولايات المتحدة إلى مصر بعد حصولي على الدكتوراه، وكنت أهيئ نفسي لتأسيس مدرسة في الجيولوجيا الاقتصادية التي لم يكن لها مثيل في العالم، وذلك بعد أن درست مناجم أميركا وأوروبا، فقمتُ بشحن أربعة أطنان من الصخور لأدرس عليها للطلبة ـ لم أعد بثلاجة أو تلفزيون كما يفعل الناس ـ وكنت مصرّاً على إنشاء مدرسة يقصدها الطلبة من أنحاء العالم، من أميركا وأوروبا، ليدرسوا في مصر. وكانت المفاجأة أن رفضت الجامعة وطَلبت مني تدريس الكيمياء في المعهد العالي في السويس، فرفضتُ وبقيت سنة كاملة من دون عمل ومن دون راتب. وكانت المسألة قاسية عليّ جداً من الناحية النفسية.

المسألة بالنسبة لي لم تكن مجرد عمل ومصدر رزق، بل كنت مصرّاً على المجال الذي أحببته ودرسته وشعرت أنني يمكن أن أضيف فيه.. فقلت لو أني قبلت بتدريس الكيمياء سأنسى ما تعلّمته من الجيولوجيا، وهذا ما لم أستطع تقبّله أو تحمّله. رغم أن هذا القرار كلّفني كثيراً وأربك حياتي، لأن التكاليف التي تكبّدتها كانت باهظة: شراء الصخور وشحنها الى مصر، ثم عاماً كاملاً بلا عمل.. كانت أزمة لكنها انتهت لصالحي وتعلّمتُ منها أنه رُبَّ ضارّةٍ نافعة فعلاً.

شرقي في بلاد المهجر

* يقولون إن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا ابداً...

ـ الفجوة بين الشرق والغرب لا شك أنها تعمّقت بعد أحداث 11-9. فعندما ضُربت أبراج التجارة في أميركا بدأ الناس في الغرب بشكل عام يتساءلون: لماذا؟ ما الذي فعلناه لهؤلاء حتى يكرهوننا هكذا؟ وبدأ الشرقيون المقيمون في الغرب أيضاً يتساءلون لماذا؟ لماذا حدث ما حدث؟ ولماذا يعاملني الغرب وأنا الذي أعيش فيه منذ زمن طويل ـ أو ربما مولود فيه ـ هكذا؟!.. واتّسعت الفجوة اتساعاً شديداً. وذلك الهجوم على الإسلام والرسول في بعض الصحف الغربية ما هو إلا أحد مظاهر هذه الفجوة المتزايدة، وتزيدها عمقاً ردود الفعل في عالمنا العربي والإسلامي.

وقد كنتُ أتساءل: لو سبَّ أحد ما ديني، فهل سينقص هذا من ديني شيئاً؟ لم أشعر بذلك، وأنا المسلم الذي ينتمي والدي الى مؤسسة الأزهر. وهل نحن ننتظر حكماً على رسولنا الكريم من أحد ليقيّمه؟!

تزعجني الطريقة التي يتعامل بها بعض المسلمين مع الدين ومبالغتهم في الاهتمام بصورة الإسلام في العالم. فمثلاً يقابلني مَن يفرح فرحاً بالغاً لأن واحداً من رواد الفضاء أسلم ويقول لي: هذا نصر لصورة الإسلام. وأتساءل: هل ينتظر الإسلام أن يسلم هذا الرجل لكي يكون ديناً جيداً. أنا أثق في أن الإسلام دين حق ولو لم يعتنقه أحد!

* سبعة آلاف سنة حضارة، لماذا لا تظهر علينا، لماذا لم نتطوّر وبقينا أسرى التغنّي بالماضي المجيد؟

ـ مصر هي قلب العالم العربي، وعندما تصاب يصاب العالم العربي كله. المشكلة في مصر في الأساس أننا، منذ قيام الثورة، ونحن نهتم بإقامة المؤسسات التي ستقوم الحكومة فيها بإصلاح كل شيء في البلد. سنعلّمكم بالمجان ونوظفكم ونعالجكم. فرفع الناس أيديهم وتركوا المسؤولية بالكامل على الحكومة. التلميذ في المدرسة ينتظر أن يأتي له والده بمدرّس خصوصي، وخريج الجامعة في انتظار أن تجد له الحكومة عملاً بدلاً من أن يسعى هو للحصول على عمل. حتى نظافة الشوارع أمام منازلنا لا نريد أن نتحمّل مسؤوليتها. المشكلة أن الناس بالغوا في الاعتماد على الحكومة، واستقالوا من المسؤولية وألقوها بالكامل على غيرهم وتفرّغوا للشكوى فقط.

معنى ذلك أننا فقدنا المسؤولية، حتى مسؤوليتنا الشخصية، وهذا يعني أننا صرنا نربي أولادنا على ذلك، بل ونقتل أي محاولة للاستقلالية والإبداع في أولادنا. فما ان ينطق الولد (الصبي) أو البنت بأنه يريد فعل شيء حتى يحبطه والداه بدعوى أنه صغير ولا يعرف مصلحته وهم يعرفونها أكثر منه.. فيتعلّم ألا يشارك في المسؤولية، حتى في اتخاذ قرار خاص بحياته. إنه أسلوب التربية الذي يقمع محاولات أبنائنا لكي "يكونوا" أنفسهم. نحن، كآباء وأمهات، لا نسمح لهم بأن يختاروا طريقهم، بل نريدهم أن يصبحوا ما نريده نحن، وهذه أُولى الخطوات على طريق صناعة مواطن، وبالتالي أمة، غير مسؤولة وغير قادرة على التغيير والتطوّر وجاهزة للاستعباد. وهكذا، فقد ركزنا على إقامة المؤسسات ونسينا بناء الفرد ـ الإنسان. ما نحتاجه فعلاً هو أن نبني البشر.

* لماذا نجح الغرب وفشل العرب في التطور؟

ـ لأن هيبة العلم انخفضت، وضاعت هيبة العلماء، ولم يعد هناك احترام للبحث العلمي، مقابل احترام المال على حساب أي شيء آخر، لذلك كله تراجع البحث العلمي في بلادنا. فليست هناك بحوث علمية حقيقية في العالم العربي تنافس بقوة، ولا براءات اختراع حقيقية تلفت الأنظار. لا يزال البحث العلمي حكراً على الدول الأوروبية وأميركا والدول المتقدمة، وذلك بسبب حكومات لا تملك الكفاءة وأغلبية صامتة لا تشارك في نهضة المجتمعات العربية نهضة حقيقية.

بعض الدول العربية مثل مصر تملك الثروة البشرية ولكنها تعاني من قلّة الموارد، والعكس صحيح فى تجربة دول مثل قطر والإمارات، حيث تحاول خلق نهضة علمية فى مجتمعاتها ولكنها تعاني من عدم وجود الكفاءات البشرية. وكانت النتيجة الطبيعية أن يفوتنا قطار القنبلة الذرية العربية في حين وصلت إليها بلاد مثل الهند وباكستان، وربما إيران. وربما فاتتنا حتى الاستخدامات السلمية، في مقابل تفوّق إسرائيلي نووي لا يخفى على أحد.

جزء أساسي من مشكلتنا هي التعليم، أو بالأحرى تدهور التعليم، فلا إصلاح في أي مجال إلا بإصلاح حال التعليم أولاً، ناهيك عن معدلات الأميّة الفاضحة.

المساهمون