"تمنّيتُ لو أموت": الإتجار بالبشر وتعذيبهم في مصر والسودان

22 فبراير 2014
+ الخط -
"ضربوني بقضيب معدني. كانوا يسيّلون البلاستيك المذاب على ظهري، وكانوا يضربونني على باطن قدمي ثم يرغمونني على الوقوف لفترات طويلة، بالأيام أحياناً. هددوني في بعض الأحيان بقتلي ووضعوا مسدساً في رأسي، وعلقوني في السقف بحيث تعجز قدماي عن لمس الأرض وصعقوني بالكهرباء. وأمامي توفي أحد الأشخاص بعد أن علقوه في السقف لمدة 24 ساعة. كنا نشاهده وهو يموت".

الشهادة السابقة نقلتها منظمة "هيومن رايتس ووتش" عن صبي إريتري عمره 17 عاماً، تم اختطافه من شرق السودان في أغسطس/ آب 2011 ونقل إلى متاجرين بالبشر في شبه جزيرة سيناء في مصر، حيث تم تعذيبه والتنكيل به على مدار ثمانية أشهر حتى دفع أقاربه نحو ثلاثة عشر ألف دولار أميركي.

وقالت "هيومن رايتس ووتش"، في تقرير لها، إن متاجرين بالبشر اختطفوا وعذبوا وقتلوا لاجئين، معظمهم من إريتريا، في شرق السودان وشبه جزيرة سيناء المصرية، طبقاً لأقوال عشرات الأشخاص الذين أجرت المنظمة معهم مقابلات، مشيرة إلى إخفاق السلطات في مصر والسودان في بذل جهد كاف لتحديد المتاجرين وملاحقتهم، ومسؤولين أمنيين يمكن أن يكونوا قد تواطأوا معهم، في خرق لالتزام البلدين بمنع التعذيب وفق القوانين الدولية والمواثيق التي وقعتا عليها.

ويحمل التقرير، المكوّن من 79 صفحة، عنوان: "تمنيتُ لو أرقد وأموت: الإتجار بالإريتريين وتعذيبهم في السودان ومصر"، ويقوم على توثيق كيفية قيام المتاجرين بالبشر المصريين منذ العام 2010 بتعذيب أشخاص ينتمون إلى دولة إريتريا قبل إطلاق سراحهم مقابل فدية في شبه جزيرة سيناء، بما في ذلك الاغتصاب والحرق والتشويه.

ويوثّق التقرير أيضاً حالات تعذيب على أيدي متاجرين بالبشر في شرق السودان، بلغ عددها 29 واقعة، حيث قال الضحايا لـ"هيومن رايتس ووتش" إن مسؤولين أمنيين سودانيين ومصريين قاموا بتسهيل انتهاكات المتاجرين بدلاً من اعتقالهم وإنقاذ الضحايا. في حين ينكر المسؤولون المصريون، وفقاً للتقرير، وجود انتهاكات على أيدي المتاجرين في سيناء، ما سمح في تحوّلها إلى ملاذ آمن للمتجرين.

ويقول جيري سمسون، الباحث في برنامج اللاجئين في "هيومن رايتس ووتش" ومعدّ التقرير، "ظل المسؤولون المصريون طيلة سنوات ينكرون الانتهاك المروّع للاجئين، الذي يتم تحت أبصارهم في سيناء. وعلى مصر والسودان وضع حد لتعذيب الإريتريين وابتزازهم على أراضيهما، وملاحقة المتاجرين وأي مسؤولين أمنيين ربما يتواطؤون معهم".

 

هيومن رايتس ووتش تتهم مصر والسودان بالتواطؤ في عمليات عبودية لأفارقة في سيناء

منذ يونيو/ حزيران 2013 قامت السلطات المصرية بتكثيف عملياتها الأمنية في سيناء رداً على اغتيالات واعتداءات شبه أسبوعية على ضباط الشرطة والجيش تقوم بها جماعات متمركزة في سيناء، وقالت "هيومن رايتس ووتش" إن على مسؤولي الأمن ضمان اشتمال العمليات التي يجرونها لإنفاذ القانون على عمليات لتحديد المتاجرين بالبشر وملاحقتهم.

ويستمدّ التقرير مادته من 37 مقابلة أجرتها المنظمة الدولية مع إريتريين، و22 مقابلة أجرتها منظمات غير حكومية في مصر. وقال الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات إنهم تعرضوا للانتهاك طوال أسابيع أو حتى شهور، إما بالقرب من بلدة كسلا في شرق السودان، أو قرب بلدة العريش في شمال شرق سيناء، قرب الحدود المصرية مع إسرائيل.

ويحكي رجل إريتري، عمره 28 عاماً، كيفية قيام الشرطة السودانية بتسليمه إلى متاجرين بالبشر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، قبل نقله إلى متاجرين في مصر ارتكبوا بحقه انتهاكات قاسية: "وصلتُ إلى كسلا شرق السودان وأوقفني رجال الشرطة وأخذوني إلى مركز للشرطة، وسألوني عما إذا كان لي أقارب بالخارج فقلت لا. في الصباح التالي فتح رجال الشرطة الباب، وكان هناك رجلان يقفان بجوارهما في فتحة الباب وينظران إليّ. أعرف بعض العربية ولذا فقد سمعت القليل مما كانوا يقولونه. سأل أحد الرجلين أحد رجال الشرطة: "هل لهؤلاء الرجال أقارب يمكن أن يدفعوا لنا؟"، فقال: "أجل". في اليوم التالي أخذنا رجال الشرطة إلى سيارة كانت تقف خارج مركز الشرطة. وكان الرجلان نفساهما في السيارة. أمرني رجال الشرطة بركوب السيارة وانطلق بي الرجلان إلى الصحراء على بعد ساعة أو نحوها".

ويكمل الرجل: "عند قناة السويس أمرنا السائق بمغادرة الحافلة، وقيل لنا أن ننتظر في منزل، على بعد نحو 150 متراً من الماء. وبعد حلول الظلام مباشرة، وصلت الشرطة المصرية بأزياء رسمية زرقاء، وبعد قليل وصل قارب فوضع المهربون 25 منّا في القارب، بينما كان رجال الشرطة يقفون على بعد 50 متراً ويتفرجون. عبرنا القناة، وعلى الجهة الأخرى كان هناك ثلاثة جنود يرتدون أزياء بنية فاتحة مموّهة ومعهم مسدسات صغيرة، ويقفون بجوار رجل يبدو أنه من البدو. وبينما كان الجنود يتفرجون، قادنا البدوي إلى مؤخرة شاحنتين مدنيتين وأمرنا بالرقاد وغطانا بالمشمع".

وعند الوصول إلى مكان الاحتجاز يحكي الرجل عن تعذيب بشع تعرّض له ومثله كل مَن كانوا معه: "علّقوني من ذراعيّ، وكذلك رأساً على عقب من كاحليّ. وضربوني وجلدوني على ظهري ورأسي بسوط من المطاط. كما ضربوني على باطن قدميّ بأنابيب مطاطية. صبوا الماء على جراحي ثم ضربوني عليها. وكانوا يصعقونني بالكهرباء في بعض الأحيان، ويحرقونني بالحديد المحمّى، ويسيلون المطاط والبلاستيك المذاب على ظهري وذراعيّ. وقد هددوني بقطع أصابعي بالمقص. وكانوا أحياناً يدخلون الغرفة ويخرجون السيدات، ثم أسمع السيدات تصرخن. وكن يعدن باكيات. في الأشهر الثمانية رأيت ستة آخرين يلقون حتفهم بسبب هذا التعذيب".

وقامت "هيومن رايتس ووتش" أيضاً بإجراء مقابلات مع اثنين من المتاجرين بالبشر، واعترف أحدهما بتعذيب عشرات الأشخاص. كما يستند التقرير إلى مقابلات أجريت من قبل منظمات مجتمع مدني أخرى خارج مصر، قابلت المئات من ضحايا التعذيب، ويستند إلى شهادات من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين على صلة بمقابلاتها مع المئات من هؤلاء الضحايا.

قال الضحايا إن المتاجرين المصريين عذبوهم لابتزاز مبالغ تصل إلى أربعين ألف دولار أميركي من أقاربهم، وقال جميع الشهود الذين قابلتهم المنظمة الدولية إنهم رأوا أو تعرضوا إلى الانتهاكات على يد المتاجرين، بما في ذلك اغتصاب سيدات ورجال، والصعق الكهربائي وإحراق الأعضاء التناسلية للضحايا وأجزاء أخرى من أجسامهم بالحديد المحمّى والماء الساخن والبلاستيك والمطاط المذاب والسجائر، وضربهم بقضبان معدنية وبالعصيّ، وتعليق الضحايا في الأسقف، وتهديدهم بالموت، وحرمانهم من النوم لفترات طويلة. وقال سبعة عشر شخصاً من الضحايا إنهم شاهدوا آخرين يلقون حتفهم جراء التعذيب.

ومنذ العام 2004، فرّ ما يفوق المئتي ألف إريتري من القمع والفقر في وطنهم إلى معسكرات حدودية نائية في شرق السودان وإثيوبيا، متجنبين حرس الحدود الإريتري الذي تلقّى أوامر بإطلاق النار بغرض القتل على الأشخاص المغادرين دون تصريح، دون أمل لهؤلاء في العمل داخل المعسكرات أو بالقرب منها، وحتى 2010 كان عشرات الآلاف قد دفعوا المال للمهربين كي يعبروا بهم سيناء إلى إسرائيل.

بحلول عام 2011، كانت إسرائيل قد استكملت أجزاء كبيرة من جدار عازل طوله 240 كيلومتراً على طول حدودها مع سيناء لمنعهم من الدخول، ومنذ ذلك الحين استمر المتاجرون باختطاف إريتريين في شرق السودان وبيعهم إلى متاجرين مصريين في سيناء.

ونقلت صحيفة "غارديان" البريطانية عن ضحايا إثيوبيين آخرين شهادات مماثلة مفزعة، حيث تحكي ليلى ديستا، (22عاماً)، وهي فتاة إثيوبية غادرت منزلها في العاصمة أديس أبابا بعد أن صوّر لها أحد الاصدقاء أن مصيرها في السودان قد يكون أفضل، لكن رحلة ديستا لم تنتهِ في الخرطوم، بل فوجئت أن صديقها باعها لتجار البشر،  لتبدأ رحلة من نوع آخر.

تقول ديستا: "بعد بيعي، رُميتُ مثل بضاعة رخيصة في شاحنة مع أخريات. كنّا مقيدي الأيدي والأرجل، وأُمرنا بالتخلي عن فكرة محاولة الفرار أو طلب المساعدة وإلا فسنقتل. كنا نتعرض للضرب المبرح بشكل مستمر، لضمان تحويل مبالغ لا نملكها وأحياناً لمجرد التخويف والترهيب".

وبنظرة ممزوجة بالحزن تقول: "قضيتُ في هذه المحنة حوالى أربعة أسابيع، لم أستطع دفع الفدية المطلوبة لأنني وحيدة، وهو ما زاد من حجم المأساة، تعرّضت لكل أنواع التعذيب، من الضرب بالعصيّ، والحرق بالسجائر، والشتم، والاغتصاب، والصعق بالكهرباء، وخدمة التجار إذا رغبوا في ذلك. لكنني حرة الآن، وأنا مثل بقية اللاجئين الذي مروا بهذه التجربة التي حوّلتنا إلى أناس مختلفين، فأنا أعتبر نفسي إنسانة جديدة اليوم".

"تيزالو"، ضحية أخرى تسرد قصتها وتقول: "غادرت إثيوبيا بعد موت والدتي، لأبحث عن فرصة أفضل في السودان، لكن وجهتي تغيّرت عندما خانني الوسيط. لم أكن أستوعب ما كان يدور حولي وكنت خائفة من كل شيء، لكنني الآن تحررت وأريد أن يعرف العالم ما عانيناه.

وتكمل الفتاة: كنا جميعاً مرضى، والكثير منّا وقع من الشاحنة وتُرك لمصيره. كان معنا شباب وكنا فوق بعضنا بعضاً داخل الشاحنة. كان الطريق إلى المعتقل مليئاً بالغبار والرمال التي كانت تلتصق بأجسادنا، وكثيراً ما اضطررنا إلى ابتلاعها. لن أنسى ذلك الرعب أبداً. مات العديد منّا اختناقاً من شدة الحر وانعدام التهوية داخل الشاحنة. وفي المنزل الذي حُبسنا فيه، كنا نحن الفتيات شبه عاريات في معظم الأوقات، بسبب اتساخ ملابسنا وتمزيقها، كما تعرضتُ للضرب والشتم والاغتصاب أمام الملأ.

وقال إريتريون إن الشرطة السودانية في بلدة كسلا الشرقية النائية، بالقرب من أقدم معكسرات اللاجئين في أفريقيا، اعترضت طريقهم قرب الحدود واحتجزتهم تعسفياً وسلّمتهم إلى المتاجرين بالبشر، بما في ذلك عند مراكز للشرطة.

كما قال بعض الضحايا إنهم شاهدوا كيفية تواطؤ ضباط أمنيين مصريين مع متاجرين عند نقاط التفتيش في ما بين الحدود السودانية وقناة السويس داخل مصر، وعند القناة بحضورها الأمني المكثف أو عند الحواجز الأمنية على الجسر الوحيد المخصص للمركبات العابر للقناة، وفي منازل المتاجرين وعند نقاط التفتيش ببلدات سيناء، وبالقرب من الحدود مع إسرائيل.

وعلى الرغم من اتّساع نطاق العلم بالإتجار في سيناء وبقسوة الانتهاكات، إلا أن كبار المسؤولين المصريين أنكروا حدوث الإتجار مراراً. وتقول القلّة التي تعترف بإمكانية الإتجار إن الأدلة المتوافرة لا تكفي للتحقيق.

وحتى ديسمبر/ كانون الأول 2013، كانت النيابة العامة المصرية لاحقت واحداً فقط من شركاء المتاجرين في سيناء، وهو مقيم في القاهرة، بحسب محام يمثّل ضحايا الإتجار. وبحسب المنظمات الدولية التي تتابع حالات الإتجار في السودان، لاحقت السلطات السودانية أربعة عشر حالة تتضمن الإتجار بإريتريين في شرق السودان، وبحلول نهاية عام 2013، كان السودان قد لاحق أربعة من مسؤولي الشرطة، ولم تلاحق مصر أيّاً منهم بتهمة الإتجار والتعذيب.

ويقول جيري سمسون: "حسب الشهادات الموثّقة، فإن مصر والسودان تطلقان أيدي بعض المسؤولين الأمنيين الفاسدين للعمل مع المتاجرين بالبشر. وقد آن الأوان منذ وقت طويل كي تتوقف مصر والسودان عن دفن رأسيهما في الرمال، وأن تتخذا إجراءات جادة لإنهاء تلك الانتهاكات المروّعة".

حينما يطلق المتاجرون سراح الإريتريين، الذين دفعت عائلاتهم الفدية، فإن شرطة الحدود المصرية كثيراً ما تعترض طريقهم وتحيلهم إلى النيابة العسكرية، ثم تحتجزهم لشهور في ظروف لاإنسانية ومهينة في مراكز الشرطة بسيناء، على حد قول الضحايا. كما أن السلطات المصرية تحرم ضحايا الإتجار من حقوقهم بموجب قانون مكافحة الإتجار في البشر المصري لسنة 2010، الذي ينص على ضرورة تلقيهم المساعدة والحماية والحصانة من الملاحقة القضائية.

وبدلاً من هذا، توجّه السلطات إليهم تهماً بمخالفات تتعلق بالهجرة غير المشروعة، وتحرمهم من الوصول إلى العناية الطبية التي يحتاجونها، إضافة إلى وكالة اللاجئين الأممية، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التي تنظر في طلبات اللجوء في مصر.

وقالت "هيومن رايتس ووتش": "ادّعت السلطات المصرية مراراً أن كل الإريتريين الذين يجري اعتراضهم في سيناء هم مهاجرون غير شرعيين، وليسوا لاجئين، متجاهلةً أن معظم ضحايا الإتجار في سيناء، منذ منتصف 2011، قد أخذوا من السودان إلى مصر رغم إرادتهم".

ولا تفرج السلطات المصرية عن الإريتريين المحتجزين إلا عند جمعهم ما يكفي من المال لشراء تذاكر طيران إلى إثيوبيا. وهناك يعود كثيرون منهم من حيث بدأوا، معاودين العيش في معسكرات اللاجئين قرب إريتريا، حيث تم تسجيلهم في البداية كلاجئين.

وطلب تقرير المنظمة الحقوقية الدولية من مانحي مصر الدوليين، بمَن فيهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، أن يضغطوا على السلطات المصرية والسودانية للتحقيق مع المتاجرين بالبشر وملاحقتهم، والتحقيق في أي تواطؤ من جانب مسؤولين أمنيين معهم.