مع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، انتشر عدد من الأمراض المعدية في المدارس التي تؤوي آلاف النازحين، ورغم كل محاولات تخصيص غرف طبية أو توفير طاقم طبي لكل مركز إيواء، إلا أن تلك الجهود تقف عاجزة عن وقف انتشار الأوبئة التي تشكل خطراً على النازحين، خصوصاً الأطفال وأصحاب الأمراض المزمنة.
ولا تملك وزارة الصحة في غزة توفير كميات العلاج اللازمة، فكميات الأدوية التي تصل إلى القطاع عبر المساعدات التي تدخل من معبر رفح محدودة، وغالبية المراكز الصحية مدمرة أو متوقفة عن العمل، وهناك نقص حاد في العقاقير واللقاحات، وخاصة لقاحات الأطفال، في حين رصدت قرابة 300 ألف إصابة بأمراض جلدية، وعشرات آلاف من المصابين بأمراض المعدة والأمراض التنفسية.
ورغم دخول عدد من شاحنات المساعدات يومياً، إلا أنها لا تلبي سوى 10 في المائة فقط من احتياجات القطاع الغذائية والدوائية، بحسب مكتب الإعلام الحكومي في غزة، والذي يتهم الاحتلال الإسرائيلي بالتحكم في كميات ونوعية ومسار المساعدات، خصوصاً الطبية منها، والتي يستخدمها كسلاح لقتل الجرحى والمرضى، ويؤكد أن مناطق شمالي القطاع ومدينة غزة معزولة تماماً، ولا تصلها أية أدوية، ولا تتوفر فيها أية خدمات طبية.
يقول المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، أشرف القدرة، لـ"العربي الجديد": "في بداية العدوان الإسرائيلي، كنا نتخوف من الوصول إلى هذه المرحلة، وحذرنا مراراً من أن هناك تهديداً حقيقياً على حياة المرضى والجرحى، واليوم، نحن أمام واقع خطير، ومئات الجرحى يفارقون الحياة نتيجة عدم توفر الخدمات الصحية. الوضع الصحي والإنساني في أماكن الإيواء لا يمكن وصفه نتيجة الانتشار المتسارع للأوبئة والأمراض المعدية، فضلاً عن سوء التغذية والجفاف، ولا نزال نطالب بالتدخل العاجل لتوفير الاحتياجات الدوائية والوقود".
ويوضح القدرة: "هناك أعداد كبيرة من أصحاب الأمراض المزمنة داخل قاعدة البيانات التابعة للوزارة، وهؤلاء بحاجة إلى تدخل عاجل يبدأ من توفير المياه والغذاء الكافي، ثم الرعاية الصحية المناسبة. كما أن أكثر من 700 ألف طفل بحاجة ماسة للغذاء والمياه، و50 ألف سيدة حامل بحاجة لعلاج ومقويات، و1100 مريض كلى، وعشرات آلاف الجرحى المحرومين من العلاج، والحلول المتاحة هي إقامة نقاط طبية أو عيادات متنقلة لتوفير الرعاية الصحية للنازحين إلى مناطق خانيونس ورفح، ما يمكن من تقليص الأزمة الحاصلة، وتوفير الرعاية للجرحى والمرضى في مراكز الإيواء".
عشرات آلاف الجرحى والمرضى محرومون من العلاج في غزة
تكرر نعمة الجرار (35 سنة) على مدار الشهر الماضي زيارة عيادة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" في منطقة البلد في مدينة رفح، بعد إصابة ابنتها سندس (26 شهراً) بأعراض جلدية متفاقمة انتقلت إليها من أطفال الجيران في مدرسة الإيواء المكتظة بالنازحين. في البداية، كان تشخيص طبيب الجلدية أنها أعراض "إكزيما"، ووصف لها مرهماً لتخفيف الحكة، لكنها رغم استخدام المرهم لم تتحسن، وزاد تفاقم حالتها مع تكرار ارتفاع درجة حرارة جسمها، ليشك الأطباء بأنها مصابة بالتهاب السحايا.
وسندس واحدة من مئات الأطفال داخل مدرسة بنات رفح الإعدادية الذين تظهر عليهم أعراض أمراض جلدية، وتؤكد أمها لـ"العربي الجديد"، أن "الاكتظاظ الحاصل كارثي، ويجعلنا لا نستطيع أن نمنع الأطفال من الاختلاط ببعضهم، وقد أصيب اثنان من أطفالي بالإسهال المتزامن مع الإنفلونزا، وكان تشخيص الطبيب أنه نتيجة سوء التغذية وقلة شرب الماء. الطبيب المعالج طلب مني منع اختلاطهم بالأطفال، والتعقيم المتواصل لمكان إقامتنا، لكن هذا أمر مستحيل في مركز الإيواء. نزور عيادة أونروا كل أسبوع لمتابعة حالتهم، لكني أعيش حالة من القلق المتواصل".
ويؤكد مكتب منظمة الصحة العالمية في غزة تسجيل أكثر من 100 ألف حالة إسهال منذ بداية العدوان الإسرائيلي، نصفها بين الأطفال الذين لا تزيد أعمارهم عن 5 سنوات، وهذا الرقم أكثر بـ 25 ضعفاً مما كان قبل العدوان، وتسجيل أكثر من 150 ألف إصابة في الجهاز التنفسي العلوي، والعديد من حالات التهاب السحايا، والطفح الجلدي، والجرب، وجدري الماء.
وأشارت آخر تقارير الأمم المتحدة في 21 ديسمبر، حول الأوضاع في قطاع غزة، إلى تسجيل أكثر من حالتي وفاة يومياً بين كل 10 آلاف شخص بسبب الجوع الشديد، أو نتيجة الأمراض الناتجة عن سوء التغذية.
أصيب عبد الله عرفات (42 سنة) بالتهاب الكبد الوبائي من الفئة "أ" في بداية ديسمبر/كانون الأول، وأبلغه الطبيب في مجمع ناصر الطبي أنها عدوى كبدية تنتقل عبر فيروس شديد العدوى، وأنه ينتشر من خلال المياه الملوثة، بينما هو لم يشرب مساه نظيفة منذ أكثر من شهر ونصف، وعاش معاناة صعبة لأكثر من أسبوع قبل أن يتمكن من مقابلة الطبيب الذي أطلعه على حالته.
عجز عرفات عن الإجابة على أسئلة "العربي الجديد"، وقال شقيقه زكريا، إنه "تم فتح ملف طبي له لتلقي العلاج العاجل من خلال الأدوية الواردة ضمن المساعدات، ورافقته أخيراً لزيارة الطبيب، فوجدت العديد ممن يعانون من نفس حالته التي انتقلت إليهم عبر العدوى المنتشرة".
كان عرفات من بين نحو ألف إصابة جديدة بالتهاب الكبد الوبائي "أ" في قطاع غزة تم تسجيلها أخيراً في وزارة الصحة. يقول شقيقه: "هذا المرض قاتل في ظل أوضاع الحرب الدائرة في قطاع غزة، والتي تقتل المئات يومياً. يتمنى شقيقي الموت في بعض اللحظات، فلا علاج، ولا أطباء، والسفر للعلاج في الخارج شديد الصعوبة، ونحن نازحون من مدينة غزة إلى مدينة خانيونس، وندعو الله أن يتوقف العدوان حتى نجد طريقة لعلاجه في الخارج".
8 مراكز صحية تابعة لوكالة "أونروا" فقط تعمل في مناطق وسط قطاع غزة وجنوبه
وتعمل حالياً ثمانية مراكز صحية تابعة لوكالة "أونروا" من أصل 22 كانت تعمل في مناطق وسط وجنوب قطاع غزة، وسجلت تلك المراكز 8656 زيارة للمرضى خلال يومي 16 و17 ديسمبر، وغالبيتهم من النازحين. بينما يتم تقديم الرعاية الصحية للنازحين في الملاجئ من خلال 97 فريقاً طبياً، ويتألف كل فريق من طبيب أو طبيبين وممرضة، وقدم ما مجموعه 480 عاملاً صحياً في المراكز الصحية بمراكز الإيواء الدعم لأكثر من 19 ألف مريض.
ويشرح طبيب أمراض المعدة، محمد الهمص، أن الأمراض المُعدية قد تصبح مميتة، وأن مراكز الإيواء تضم المئات من النازحين المصابين بالأمراض المزمنة، وتنتشر داخلها أمراض الشتاء، وأوضح أن مريضين توفيا أخيراً في مدينة رفح بسبب نقص العلاج، وعدم تحمل جسميهما حدة المرض.
يضيف الهمص لـ"العربي الجديد": "لا تتوفر أدوية ولا لقاحات في غزة، ولا غرف عزل، ويمكن أن يؤدي استمرار الحرب إلى إصابة آلاف بأمراض السرطان، وأمراض الكبد الوبائي، وأمراض الفشل الكلوي نتيجة التلوث العام، وانعدام سلامة الغذاء، فالأجسام لا يمكنها مقاومة الأمراض في ظل غياب العناصر الغذائية الأساسية مثل الخضروات والفواكه، وهي غير موجودة تقريباً في قطاع غزة".
بدوره، يشير طبيب الصحة العامة، منذر سليمان، والذي يعمل داخل أحد المراكز الصحية التابعة لوكالة أونروا، إلى أن "تشخيص الحالات ونوعية العلاج يظهر أن الأطفال من عمر شهر حتى أربع سنوات هم النسبة الأكبر من حالات الإصابة بالإسهال والأمراض الجلدية وأمراض المعدة، وكذا أمراض البرد الموسمية". لكن ما يقلق سليمان هو "عدم توفر الاحتياجات الطبية العاجلة، وكون البيئة التي يعيش فيها الآلاف غير صحية لوقت طويل، ما يجعل الأعراض تستمر إلى وقت أطول من المعتاد".
ويقول سليمان لـ"العربي الجديد": "يزيد انتشار الأمراض بشكل كارثي في ظل غذاء سيئ ومياه ملوثة، ولو نظرنا إلى ما يأكله سكان قطاع غزة، وطبيعة المساعدات الواردة المكونة من معلبات وأرز وبقوليات، ومعظمها كانت مخزنة بطريقة غير مناسبة، أو تخزن حالياً بطريقة غير مناسبة، فإننا نلاحظ أن بعض تلك الأطعمة تكون مضرة للجسم، وفي ظل تكاثر الفيروسات والبكتيريا في المحيط نظراً لقلة وسائل النظافة، وبسبب الاكتظاظ، تضعف الأجسام، وتصبح أكثر عرضة للأمراض والعدوى".