استمع إلى الملخص
- تأثرت كرة القدم المجرية بالتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية، بما في ذلك الانتفاضة ضد التدخل السوفييتي في 1956، مما أدى إلى تفرق أعضاء الفريق وبداية تراجع اللعبة.
- بعد فترة طويلة من الغياب، عادت المجر إلى المنافسات الدولية في 2016، لكن بدون القوة والهوية الكروية التي كانت تميزها في الماضي، متأثرة بالتغيرات السياسية وصعود اليمين المتطرف.
مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، تضيئه هذه السلسلة التي يستأنف موقع "العربي الجديد" نشرها بمناسبة بطولتي اليورو وكوبا أميركا 2024. تتناول حلقة اليوم تاريخ منتخب المجر.
حين عاد للمشاركة في المسابقات الدولية الكبرى منذ سنوات قليلة، بدا منتخب المجر وكأنه خرج من كتاب تاريخ. كان قوة كُروية عظمى بلغت مداها في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، ثم انتهى إلى ما هو عليه الآن؛ منتخبٌ بلا نجوم ولا هوية تكتيكية وبلا طموحات بالمضيّ بعيداً. وبين زمنين، جرت مياه كثيرة تحت الجسر حتى باتت المجر كسمكة خارج مائها في عالم كرة القدم كما نعرفها اليوم.
صحيح أن اللعبة الأكثر شعبية في العالم لا تزال تعتمد على 11 لاعبا، ولم تتبدّل أشكال الملاعب، وأن قوانينها لم تتغيّر إلا نسبياً، لكن حجمها الاجتماعي قد تضخّم بشكل رهيب، وباتت تعبرها رهانات اقتصادية وجيوسياسية خطيرة. وإلى ذلك، دخلتها أفكار تكتيكية ومنظورات تسيير جديدة فرفعت بلداناً وأخّرت أخرى. أكان صدفة أن يندثر إشعاع المجر الكروي مع ظهور احتراف اللاعبين بشكله الليبرالي المُعولم، أو حين أصبح الفيفا منظمة مرهوبة الجانب تتنافس على رضاها الأمم؟ وهل كان صدفة أن تغادر المجر المواقع الأمامية حين تلوّن التلفزيون وباتت المادة الرياضية أحد أعمدته؟
بدايات وحروب
كانت المجر طرفاً في أول مباراة دولية بين منتخبين خارج الجزر البريطانية، حين التقى منتخبها بالنمسا عام 1902، وكانت تلك المباراة تمثل امتداداً لتنافس بين نُخب عاصمتي الإمبراطورية النمساوية-المجرية وهي تعيش آخر أيامها، فقد انتهت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) بتصفيتها، وكانت لذلك عواقب رياضية حيث قاطع الفيفا - بضغط بريطاني - البلدان التي اعتُبرت سبباً في الحرب، وتحديداً ألمانيا والنمسا والمجر. لكن انسحاب اتحادات الكرة البريطانية من "فيفا" في بداية العشرينيات دفع الاتحاد الدولي لإرضاء المنتخبات المغضوب عليها، فعادت المجر للمشاركة عبر الألعاب الأولمبية 1924.
المجر جزء أساسي من التاريخ المبكّر لكرة القدم
بفعل التنافس مع البلدان المجاورة، خصوصاً النمسا ورومانيا، ازدهرت كرة القدم في المجر من ناحية هيكلة الأندية وتطوّر مهارات اللاعبين، وأيضاً كبنية تحتية، حتى أنها كانت من البلدان التي تقدّمت بملف لتنظيم أوّل نسخة من كأس العالم (1930)، فلمّا آل شرف تنظيم البطولة لأوروغواي، قاطع المجريون - ومختلف البلدان الأوروبية التي قدّمت ملفات ترشحها - النسخة الأولى من المسابقة، ما دفع رئيس الاتحاد وقتها، جول ريميه، إلى أن يقطع وعداً بأن تقام الدورة اللاحقة في بلد أوروبي، فنُظّمت البطولة في إيطاليا التي فرضت سطوتها عليها، وكانت مشاركة المجر متوسطة ببلوغ ربع النهائي. وستكون الدورة الموالية في فرنسا أوّل صعود للمجر قوة كروية بارزة حين وصلت إلى المباراة النهائية واصطدمت بالمنتخب الإيطالي الذي حافظ على لقبه بطلاً للعالم.
ميدالية فضية لمنتخب ذهبي
عندما نزل ستار الحرب العالمية الثانية على كرة القدم عام 1939، كانت المجر تُعتبر رابع قوة كروية عالمية بعد إيطاليا وأوروغواي، وإنكلترا رغم عدم مشاركتها بعد في كأس العالم. وحين وضعت الحرب أوزارها (1945)، بدا أن المجر قد استعدّت جيداً للمرحلة الجديدة، فقد أعدّ المدرّب غوشتاف سيبيس مجموعة لاعبين سيشكّلون جيلاً ذهبياً سحر عالم كرة القدم بضعة أعوام.
مع ذلك الفريق بلغ نموذج لعب 4-4-2 ذروته بلاعبين مهاريين في كل المواقع، وبقيادة فلتة كروية؛ اللاعب رقم 10 فرنك بوشكاش الذي جمع لأول مرة بين دوري صناعة اللعب وتسجيل الأهداف، يسانده في الهجوم كوتشيش وتسيبور، وخلفهم خط وسط فيه زاكارياس وهيديكوتي وبوداي، ناهيك بدفاع صلب أمام الحارس غروشيش. سُمّي هذا الفريق بالـ"11 الذهبي"، ذلك أن التشكيلة كانت ثابتة، يحمل كل لاعب فيها رقم مركزه من 1 إلى 11 منذ أول مباراة لهم في 1949 إلى آخر مواجهة خاضوها عام 1956، في وقت كانت قوانين الكرة لا تعترف بالتغييرات أثناء المباراة. ولقد بدأ إدخال البدلاء ضمن تصوّر كرة القدم عام 1958، أي بالتزامن مع أفول منتخب الـ"11 الذهبي"، وهو متغيّر بسيط آخر يبدو أن المجريين لم يسايروه.
في سبعة أعوام لعب بوشكاش ورفاقه 50 مباراة فازوا في 42 منها، وتعادلوا في 7 مناسبات وهُزموا مرة وحيدة، لكنها صادفت أن تكون أهم مباراة في مسيرتهم؛ نهائي كأس العالم 1954 بعدما تقدّموا بهدفين في الشوط الأول. يومها انقلب تاريخ كرة القدم إلى الأبد، أصبحت ألمانيا الغربية - التي كانت إلى ذلك الوقت بلا إنجازاتٍ - قوةً كروية أساسية في العالم، وفي الاتجاه العكسي غربت شمس المنتخب المجري ولم تُشرق بعد ذلك. ما يزيد من تشويق سيناريو ذلك الانقلاب، هو المواجهة التي جمعت طرفي النهائي قبل أيام في مرحلة المجموعات، وفاز خلالها المجريون بنتيجة 8-3.
نتيجة غريبة على أسماع متابعي كرة القدم اليوم، لكنها كانت عادية بالنسبة لذلك الجيل المجري؛ فقد انتهت أول مباراة لهم عام 1950 في "الدربي" ضد النمسا بنتيجة 6-1، ضمن مسابقة تُعرف بالكأس الدولية اندثرت في 1953، أي في ذات الدورة التي فاز بها المنتخب المجري، ويا له من نحس. في دورة الألعاب الأولمبية 1952 فازت المجر على تركيا 7-0 وعلى السويد 6-0، وحصدت الميدالية الذهبية في الأخير. وفي 1953، فاز الجيل الذهبي 6-3 على إنكلترا وهي أول هزيمة دولية للإنكليز على أرضهم، وحين أقيمت بعد أشهر مباراة ثأرية في بودابست فاز المجريون مجددا على الإنكليز 7-0. وفي كأس العالم 1954 بدؤوا مشوارهم بالفوز على كوريا الجنوبية 9-0، ثم ألمانيا 8-3، وواجهوا البرازيل في ربع النهائي وانتصروا 4-2، وثم هزموا أوروغواي حاملة اللقب بنفس النتيجة، قبل أن تأتي مباراة ألمانيا التي انهار فيها كل شيء.
مواهب المجر التي تبعثرت
كان يمكن على الأقل أن تتذكّر الأجيالُ اللاحقة المجرَ بتتويج عالمي يظل عنواناً لهيمنتها الكروية لسنوات، لكن التاريخ أبى إلا أن يُبقيها في الظل. حتى الألقاب التي أحرزتها المجر باتت منسية. وتجدر هنا الإشارة إلى أن وزن المسابقات كان مختلفاً عما هو عليه اليوم. ففي النصف الأول من القرن كان الذهب الأولمبي (منذ دورة لندن 1908) هو الهدف الأول لمنتخبات كرة القدم، بما أنه لم يكن هناك مونديال، وحتى مع تنظيمه بدءاً من 1930 بقيت هذه المسابقة منقوصة الشرعية مع عدم اهتمام اتحادات الجزر البريطانية، مهد الكرة، بالمشاركة فيها. لعبت المجر أدواراً متقدمة في مسابقات كرة القدم في الألعاب الأولمبية، وفازت بالذهب الأولمبي بفضل جيل بوشكاش عام 1952 (دورة هلسنكي)، في وقت لم يكن يوجد سقف لسنّ اللاعبين (23 سنة)، والذي بدأ تبنّيه لاحقاً. وقد حقّقت المجر ضمن قواعد مسابقات كرة القدم الأولمبية القديمة الذهب في دورتين إضافيتين عامي 1964 (طوكيو) و1968 (مكسيكو).
لكن كيف انتهى الجيل الذهبي؟ في الحقيقة، كان يمكن له الاستمرار عشر سنوات أخرى، إذا علمنا أن أفضل لاعبيه بوشكاش واصل اللعب في أعلى مستوى حتى عام 1966. إذن لم يتوقّف "الـ11 الذهبي" كُروياً، وإنما انتهى بتدخّل جراحيٍّ من التاريخ؛ تاريخ المجر. ففي نهاية سنة 1956، قامت انتفاضة شعبية ضدّ التدخّل السوفييتي وسوء الأحوال الاقتصادية تحت نماذج التخطيط الاشتراكي. اعتبرت موسكو انتفاضة المجريين تهديداً لمصالحها في منطقة حساسة من مناطق نفوذها في إطار "الحرب الباردة"، والتي لم تكن كذلك بالمرة حين دارت فصولها على أرض المجر، فقد اجتاح الجيش الأحمر شوارع العاصمة بودابست مُنهياً بشكل دمويّ حاسم انتفاضة الشعب المجري. ومع تلك الأحداث، فرّ عدد من أعضاء الفريق الذهبي إلى بلدان مجاورة أولاً، ثم إلى إسبانيا؛ بوشكاش استقطبه ريال مدريد، واتجه تشيبور وكوتشيش إلى برشلونة.
وكأنما دخلت المجر في إحباط نفسي معمّم. اكتفت بدورها كحجر في رقعة الشطرنج الشيوعية، وفي نوع من الانزواء كانت ترجمته الرياضية تراجعَ المنتخب ودخوله في شتاء طويل. حافظت المجر لسنوات أخرى على قدرتها في إنجاب لاعبين جيّدين، وحققت بعض النتائج إذ ترشّحت لـ3 دورات متتالية من نهائيات كأس العالم (1978 - 1982 - 1986) لكنها خرجت في كل مرة من دور المجموعات، ومن ثمّ اختفت تماماً من جميع البطولات الدولية وكأنها لم تعد موجودة على الخريطة.
هل تذهب الأمم إلى التقاعد؟
لم تظهر المجر من جديد في بطولة دولية كبيرة إلا عام 2016، مع توسيع دائرة المنتخبات المشاركة في كأس الأمم الأوروبية من 16 إلى 24 فريقاً. في الأثناء، كانت قد ظهرت في العالم قوى كروية أخرى لم تعرفها المجر في سنوات مجدها؛ هيمنت بعدها البرازيل في ما تبقى من عقد الخمسينيات ثم في الستينيات، وبرزت الأرجنيتن وهولندا قوتين كرويتين جديدتين، ثم صعدت إسبانيا وفرنسا إلى منصات التتويج، فيما تواصل إشعاع الألمان فحققوا العديد من الألقاب الأوروبية والعالمية، ونجح الطليان (عكس المجريين) في استئناف أمجادهم بعد تراجع سنوات. وكلما مضى الزمن، غرقت أمجاد المجر الكروية في النسيان أكثر، لتبقى حبيسة عصر التصوير بدون ألوان.
وكحالها في المجمل، انقلبت الأيام بالمجر من حجر زاوية ضمن إمبراطورية تقرّر مصير جزء من العالم إلى بلد بلا منافذ بحرية في وسط أوروبا. بلدٌ بات مُغلقاً بأكثر من معنى. ربما استفادت البلاد من انهيار الاتحاد السوفييتي لتفتح صفحة جديدة من تاريخها، لكنها تعثّرت مع الدخول السريع في اقتصاد السوق، وكانت مضطرة لأن تمسك باليد التي مدّتها إليها أوروبا فدخلت اتحادها عام 2004، لكن في المقابل كانت مشاعر التذمر تتزايد، وذكريات الأمجاد تثقل كواهل المجريين، ما هيأ حاضنة لصعود اليمين المتطرف.
المجر بلد مُغلق جغرافياً، لكنه بات أيضاً مغلقاً بخياراته السياسية
وفي غيبوتها الكروية، لم تفكر المجر حتى في التوسل بالروافع التي قادت لتطوير منتخبات عرفت تعثّراً في وقت من الأوقات مثل ألمانيا وفرنسا وسويسرا، حين قرّرت استيعاب أعراق جديدة من مواطنيها في تشكيلة منتخباتها. ولكن، كيف للمجر أن تقدِم على هذه الخطوة وهي بلد يغلق أبوابه. ومنذ 2010، أصبح تحت حكم زعيم اليمين المتطرف فيكتور أوربان وقد مثّل وصوله إلى منصب رئيس الوزراء صدمة في أوروبا التي بدت لحظتها وكأنها ندمت على احتضان المجر وقد باتت تذكرها بكوابيس الفاشية، غير أن بضع سنوات كانت كافية كي تقطع بلدان مثل إيطاليا وفرنسا من المسافة نحو بلاد أوربان أكثر مما خطته المجر نحو أوروبا.
لعل الانفتاح الوحيد الذي يتجلى عبر كرة القدم هو قبول المجر بتولي الأجانب منصب مدرب المنتخب، حيث انفتحوا أول مرة على المدرسة الرومانية في بداية التسعينيات، ثم على الألمان وكانت نتيجة ذلك العودة للمسابقات الدولية عام 2016 والترشح للدور الثاني من المسابقة. كما يعتمد الفريق حاليا على المدرب الإيطالي ماركو روسّي.
في ما عدا ذلك، تعيش المجر على ماضٍ تؤسطره باستمرار، ومن بين العناصر التي اصطفتها الذاكرة الشعبية ذلك الجيل الذهبي. ولقد كانت الجنازة التي أعدتها الدولة المجرية عند وفاة فرنك بوشكاش عام 2006 دليلاً على نوعية المفردات التي تنتقيها السياسات لبناء الحاضر. وقبل ذلك، تغيّرت تسمية الملعب الوطني من "ناب-ستاديون" (ملعب الشعب) إلى "بوشكاش أرينا" عام 2002، وحين أعيد تجهيزه عام 2019، اختار المجريون مواجهة أوروغواي لافتتاحه، كي تكون مباراةً تذكّرهم بـ"الزمن الجميل". زمن كانت فيه كرة القدم مختلفة تماماً عن تلك التي نشاهدها اليوم.