"ما زلت أذكر بلدتنا صفورية في فلسطين حتى اليوم. فيها بلدية ومركز شرطة ومعاصر زيتون، وباصات تنقل الركاب إلى جميع المناطق". هكذا استهل الحاج محمد إبراهيم عبد المعطي، المتحدر من هذه البلدة، قصة لجوئه. يروي الحاج محمد، وهو من مواليد عام 1939، ويقطن في مخيم نهر البارد شمالي لبنان: "خرجنا من فلسطين عام 1948، حين كنت في التاسعة. وأذكر أنه بعدما اعتدى العدو الصهيوني على بلدتنا توجهنا إلى منطقة عرابة التي بقينا فيها 3 أيام تحت أشجار الزيتون والخروب بعدما اعتقدنا بأن الأوضاع ستهدأ، وسنعود إلى بيوتنا. ثم قصدنا بلدة نَحِف بقضاء عكا، حيث بقينا 15 يوماً، أي حتى سقوطها في أيدي العدو الصهيوني. وانتقلنا بعدها، سيراً على الأقدام، إلى منطقة بيت ياحون بقضاء بنت جبيل في لبنان، حيث وجدنا من سبقنا إليها وأغطية وطعاما. بقينا فيها ثلاثة أيام، ثم انتقلنا إلى بنت جبيل، ومنها إلى منطقة القرعون حيث تواجدت ثكنة للجيش الفرنسي، ومكثنا مع 3 عائلات في قسم من الثكنة".
ويشير إلى أن "الحياة كانت مقرفة. كنا نخرج للعمل من أجل شراء خضار لأكلها. في هذه الثكنة ذقنا قساوة برد الشتاء القارس بلا وسائل تدفئة، ثم لم نستطع تحمل الحياة هناك فقصدنا مدينة الميناء في طرابلس، حيث كان يعيش عدد كبير من الفلسطينيين، وعشنا في مسكن مقسّم بحسب العائلات. وكانت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) تقدم لنا بعض الخبز والطعام الذي لم يكن يكفينا، فقررنا البحث عن عمل، وأنا أحدهم حيث التحقت بفرن مقابل أجر ربع ليرة لبنانية يومياً كي أؤمن الخبز لعائلتي. واصلت العمل لمدة خمسة أشهر، ثم فتحت المدرسة أبوابها، فقال لي أبي: "أريد أن تعود إلى المدرسة، علماً أنني كنت في الصف الأول حين خرجت من فلسطين. ثم انتقلنا إلى مخيم نهر البارد، حيث أراد أبي السكن بين أهله، وما أزال في المخيم حتى اليوم". يواصل الحاج محمد حديثه قائلاً: "في هذا المخيم، سلمتنا الأونروا خيام. كنا نشعل القنديل لنرى في الليل، والشخص الذي يتواجد في الخارج يستطيع أن يرى بوضوح تحركاتنا، فدهن والدي الشادر بمادة الزفت، ثم صوّن الخيمة بحجارة بارتفاع متر ونصف المتر، وطيّنها، وأحضر أغصاناً من شجرة الزنزلخت وربطها ببعضها البعض، ووضع فوقها الشادر، فصرنا ننام براحة".
يتابع: "واصلت تعليمي حتى عام 1953، ثم مرض والدي الذي كان يعمل أجيراً يومياً فتابعنا حالته في المستشفى. وحين صرت في الصف الأول تكميلي تركت التعليم وعملت في الزراعة كي نستطيع مواصلة الحياة. ولاحقاً شُفي والدي، لكنني لم أعد إلى المدرسة. وبعد وقت طويل، أعطتنا أونروا ألواح زينكو وخشب من أجل تحسين سكننا، وبدأت أوضاعنا تسير إلى الأفضل، خاصة أن والدي صار يعمل في بيروت، ما جعلنا نشتري ملابس ونجد ما نأكله". ويشير الحاج محمد إلى أنه في "عام 1959، نزلت مع والدي إلى بيروت للعمل عند جماعة عاملوني في شكل جيد، وسلموني تسجيل دفتر الاستيراد والتصدير في مستودع حديد، حين عرفوا أنني متعلم. وفي عام 1961 توفي والدي، وعملت وحدي".
ويذكر أنه في "عام 1958 حصلت الثورة التي أوصلت كميل شمعون إلى الرئاسة. حينها كنت أعمل في بيروت، وجرت ملاحقة الفلسطينيين والسوريين، فعدت إلى نهر البارد. وعندما انتهت الثورة عملت في بيروت حتى عام 1975 حين حصلت مجزرة بوسطة عين الرمانة التي كانت تقل فلسطينيين لدى توجههم إلى مخيم تل الزعتر". يتابع: "في ذلك الوقت طلب مني صاحب العمل الاختباء في المستودع، حيث لا يعلم أحد بوجودي. بقيت ثلاثة أشهر، ثم شعرت بالخطر، فخفت أن أقتل، وعدت إلى نهر البارد. ومذاك أتعب وأعمل حتى خسرت في نهاية الأمر المال الذي وفرته في بنوك لبنان". يختم: " ليتني أعود إلى فلسطين كي أصلي بالمسجد الأقصى قبل أن أموت".