اختفى عدد من أحياء مدينة درنة الليبية بعد أن جرفت سيول العاصفة "دانيال" الأفراد والمنازل، ولم يبقَ من المدينة القديمة التي كانت تشكل بؤرة حياة السكان سوى أطلال وجدران متهدمة في شوارع "وسع بالك" و"الكواش" و"حشيشة" و"الجامع العتيق" و"سوق الظلام" و"شارع الكنيسة".
مع اختفاء الأحياء، اختفت مئات العائلات التي كانت تمثل حتى يوم العاشر من سبتمبر/أيلول، عمق المدينة التاريخي، وأصولها وجذورها، ولم يبق سوى عدد من الناجين الذين يحاولون سرد ما عايشوه من هول السيول والفيضانات. أحد هؤلاء هو محمد الجازوي، الذي كان يعيش في منزل أسرته القديم بشارع "المغار"، وهو أحد شوارع المدينة القديمة، والذي خسر أسرته ووالدته وأسر إخوته، وعددهم 21 فرداً.
يروي الجازوي (42 سنة) لـ"العربي الجديد": "ولدت وترعرعت في منزل الأسرة بقلب المدينة القديمة، ثم انتقلت إلى حيّ البحر بعد زواجي، وكذلك فعل إخوتي الثلاثة. في ليلة الفيضان، اضطررت إلى ترك منزلي، والانتقال إلى منزل الأسرة القديم في شارع المغار، بعد أن طلبت أجهزة الأمن من سكان حيّ البحر ترك منازلهم على خلفية المخاوف من فيضان قد تخلفه العاصفة التي كنا ننتظر وصولها إلى المدينة".
يضيف: "تجمعنا في منزل الأسرة القديم، وكنا نتابع أخبار السيول التي كانت قد دهمت مناطق في شرق بنغازي، قبل أن تصل إلى مدينتنا في منتصف ليل الأحد. خرجت إلى أمام البيت، فاكتشفت أن السيول جرفت سيارتي وسيارات أخوتي، بكل ما فيها من أموال وأمتعة وأوراق ثبوتية. بدأت برفقة إخوتي ووالدتي التفكير في كيفية الخروج، وكذلك كان يفعل الجيران في الشارع والحيّ".
يتابع محمد: "عند تدفق السيول التي تلت انفجار سدّ وادي درنة، ارتفع منسوب المياه عدة أضعاف في الشوارع، وجرف كل شيء، كان الوقت قريباً من الساعة الثالثة من صباح الاثنين، وحينها كنا في داخل البيت نفكر في طريقة للخروج، وأنذرنا صهري الذي كان أمام البيت يحاول منع تدفق السيل إلى الداخل، وكان يصرخ طالباً منا جميعاً الصعود بسرعة إلى الطوابق العلوية، لكن قوة السيل جرفت واجهة البيت ومعها صهري، وتدفقت المياه إلى الداخل بقوة، وغمرتنا جميعاً".
يعجز الرجل الأربعيني عن رواية تفاصيل ما حدث بعد ذلك، وكل ما يتذكره أن زوجته كانت تحاول الصعود إلى سطح البيت، قبل أن تتدفق المياه وتجرفها رغم تمسكها بيده، ثم وجد نفسه متعلقاً بسخان المياه في حمام البيت، والذي نقله قريباً من الدرج، ليتمكن من الصعود إلى الطابق الثالث، ثم إلى السطح.
يشير محمد إلى أن تلك المياه المتدفقة التي غمرتهم داخل المنزل، وجرفت عدداً من أفراد الأسرة، كانت الموجة الأولى من الفيضان، بينما الموجة الثانية كانت أقوى. "كانت أشبه بموجة عاتية جرفت العمارات وسكانها، بما في ذلك بيت أسرتي الذي كنت فوق سطحه. رأيت العمارات تختفي، والناس يغرقون. لم أشاهد مثل هذه الموجات التي ترتفع إلى ثلاثين أو أربعين متراً من قبل. كانت تبتلع البنايات والناس".
جرف التيار محمد، مرة يغرقه، ومرة يخرجه إلى الأعلى، وكان يصطدم بكل ما يمر به، حتى وجد نفسه في الطابق الثاني بمنزل متهدم في شارع الفنار، على مسافة نحو كيلو متر من منزل أسرته، وفي داخله كان يبحث وسط الظلام الدامس عن أي شيء يتعلق به.
يقول: "كنت أقول لنفسي، هل هذا يوم القيامة؟ أم أنني ميت؟ لم أكن أسمع أي صوت، حتى عثرت على بصيص نور ينبعث من مصباح شحن يدوي لا يزال مُضاءً تحت الماء، فالتقطته، وساعدني على تحسّس طريقي باتجاه درج المنزل، حتى وصلت إلى سطحه الذي وجدت عليه من ظلوا أحياءً من سكان المنزل، إذ لم ينج منهم سوى شابين ووالدهما، والبقية غرقوا، ورغم محنتهم، انتشلوني وغطوني".
يكمل: "رأيت من على سطح المنزل أناساً يطلبون العون، بينما السيول تجرف كل شيء، من سيارات وجثث وأحياء يصرخون، ورأيت سكان المباني المجاورة، وهي قرابة 15 منزلاً، يستنجدون بينما بيوتهم تنهار، ولا نملك فعل شيء لنجدتهم. رأيت بعيني نساءً وأطفالاً يغرقون. كانت المياه تلاحق الناس بسرعة، وهم يحاولون الصعود إلى الأسطح بعد أن غمرت السيول الأدوار الأولى من كل العمارات، قبل أن تبدأ بجرف العديد من المنازل، لتختفي الكثير من البنايات وسط تيار المياه الهادر".
يقيم محمد الجازوي حالياً عند أحد أقاربه في مدينة البيضاء، ولا يملك إلا الدعاء بأن يمنحه الله الصبر، فقد فقد كل أسرته، ولم تعثر فرق انتشال الجثث حتى الآن على أي منهم. وبالإضافة إلى أسرته ومنزلها، جرفت السيول دكانه الذي كان يعتاش من بيع المواد الغذائية فيه، لكنه لا يزال يعيش الصدمة، ولا يفكر في سبل مواصلة الحياة. يقول: "فقدت كل من كنت أعمل من أجلهم، ومثلي كثيرون لم يبق لهم أحد من أفراد أسرهم".