استمع إلى الملخص
- **شهادات الناجين**: الناجون يروون قصصهم المروعة، مثل سلوى الشاعر التي كادت أن تُدفن حية، ومحمود الشاعر الذي فقد ابنه، وإياد ماضي الذي نجا طفله الرضيع بأعجوبة.
- **إدانة دولية ومطالبات**: المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان والمكتب الإعلامي الحكومي في غزة أدانا المجزرة، مطالبين المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لوقف الحرب وملاحقتها قانونياً.
يكرر جيش الاحتلال الإسرائيلي إصدار أوامر الإخلاء في قطاع غزة، ويطالب الأهالي بالتوجه إلى ما يصنفها "مناطق آمنة"، ثم يكرر قصف خيام النازحين في تلك المناطق موقعاً عشرات الشهداء.
كان المشهد دامياً وحزيناً صباح الثلاثاء، بعد المجزرة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي عبر قصف الطائرات الحربية تجمع خيام في منطقة المواصي غربي محافظة خانيونس في جنوب قطاع غزة، ما خلف أكثر من 40 شهيداً وعشرات المصابين والمفقودين في منطقة يفترض أنها "آمنة".
وفي أنحاء المكان، يجلس أطفال في صمت أمام خيامهم الممزقة، وقد أكل البؤس والفقر ملامحهم، بينما زادت هذه الجريمة همومهم، وأثقلت مصاعب حياتهم، بينما يحاول الكبار انتشال الأمتعة، وتجميعها فوق بعضها، لكن الأشجار التي كانت تمنحهم بعض الظل احترقت، والخيام تمزقت، والمخيم الذي كان يعج بالحياة تحول إلى أرض فارغة إلا من الردم وبقايا الانفجارات.
وقف المسن الفلسطيني جبريل الراعي على حافة الحفرة العميقة التي أحدثتها ثلاثة صواريخ إسرائيلية خلفت دمارا هائلا في تجمع لخيام النازحين ليعاين مع عشرات المواطنين الذين وصلوا إلى المكان تفاصيل ما حدث.
ينظر الراعي إلى الحفرة التي يزيد عمقها على 15 متراً، والتي تقع على بعد مسافة قريبة منها حفرة ثانية بعمق أقل. ويقول: "حفر عميقة دفنت فيها خيام النازحين الفلسطينيين، وبعض طعامهم، كما خلفت دماراً هائلاً في مخيم الإيواء العشوائي".
خلفت الصواريخ الإسرائيلية دماراً هائلاً في تجمع خيام النازحين
بيد مرتجفة من أثر القصف، يطل الراعي على خيمته القريبة من الحفرة، والتي كانت على وشك أن تبتلعها الرمال كما حدث مع خيام أخرى اختفت آثارها. يحاول أن يصف لـ "العربي الجديد"، الحدث الدامي بملامحه التي تجثم عليها الصدمة. يقول: "دخلت الخيمة في منتصف الليل للنوم، واستيقظت على ثلاثة انفجارات كبيرة هزت الأرض، وأهالت فوق رأسي أخشاب الخيمة والرمال، ثم جاء بعض الشباب وأخرجوني من المكان. ما جرى ليس له علاقة باستهداف أفراد من فصائل المقاومة كما يروج الاحتلال، وإنما هو استهداف للأطفال والنساء بهدف إيقاع أكبر عدد من الشهداء".
لا يعرف المسن الفلسطيني الوجهة التالية له بعد تدمير مخيم الإيواء الذي نزح إليه بتعليمات من جيش الاحتلال، والذي أكد في قرار الإخلاء أن المواصي منطقة آمنة. ينهمك في إخراج أغراضه وطعامه، وإنقاذ ما يمكن من قماش خيمته من تحت الرمال، في محاولة لإعادة نصبها، بينما غادرت ابنته التي كانت تسكن خيمة مجاورة المنطقة، ونزحت إلى مأوى آخر كما فعلت عشرات العائلات التي دمرت خيامها، والذين فضلوا البحث عن مكان آخر على البقاء في مكان سيظل يذكرهم بالمجزرة الدموية.
وقال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في بيان، الثلاثاء، إن "المجزرة المروعة ضد النازحين المقيمين في خيام بالية ضمن المنطقة التي أعلنها جيش الاحتلال الإسرائيلي (منطقة إنسانية) في مواصي خانيونس، دليل إضافي على استمرار جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وعلى جريمة الصمت الدولي، فعدم إبداء مواقف مناسبة إزاء جرائم القتل الجماعي، هو ما يشجع إسرائيل على ارتكاب المزيد من هذه الجرائم الدموية".
ووفق بيان المرصد، فإنّ "طائرات حربية إسرائيلية ألقت ثلاث قنابل من نوع MK-84 أميركية الصنع بعد منتصف ليل الثلاثاء، على تجمع لخيام النازحين في منطقة مواصي خانيونس، بينما كان النازحون نياماً، ما أحدث ثلاث حفر عميقة، قطرها عدة أمتار، وإحداها أكثر عمقاً، ما تسبب بدفن نحو 20 خيمة بمن فيها من العائلات النازحة. المنطقة التي جرى قصفها يوجد فيها الكثير من خيام النازحين، وهي عبارة عن منطقة كثبان رملية، وبالتالي فإن العديد من الخيام بمن فيها من عائلات دفنت تحت الرمال".
كانت الخمسينية سلوى الشاعر تحاول بمساعدة بعض الأقارب إخراج بقايا خيمتها الممزقة من تحت الرمال، بهدف الحفاظ على ما يعينها على استكمال حياتها من أغراض ومستلزمات، لكن كل ما تملكه من طعام اختلط بالرمال.
تقول لـ"العربي الجديد": "بينما كنت أغط في النوم، وبالقرب مني ينام أطفالي الصغار، وقع القصف، وكنت على وشك أن أدفن حية، وتراكمت على الخيمة طبقات من الرمال بسبب القصف الذي هز الأرض. لم ينتبه الشبان الذين كانوا يبحثون في العتمة عن المصابين والشهداء لوجودي أسفل أقدامهم، إلا عندما لمح أحدهم يدي التي استطعت تحريكها، فنادى بأعلى صوته: (فيه شخص عايش) ليمنحني الحياة قبل أن أدفن حيةً. أزالوا الرمال عني، فأشرت لهم إلى مكان نوم أطفالي، فقاموا بالحفر سريعاً، والحمد لله خرجنا أحياء".
في لحظة القصف، كان محمود الشاعر يبتعد عن المكان نحو 200 متر، ليُفاجأ بأن السماء تحولت إلى اللون الأحمر على وقع ثلاثة انفجارات عنيفة، ويصف لـ"العربي الجديد" المشهد بملامح تعلوها الصدمة قائلاً: "احترقت المنطقة، واختفى ابني الصغير، وظللت لساعات عدة أبحث عنه في الرمال، ثم وجدته بالمشفى بعد تعرضه لإصابة. فور القصف رأيت طفلاً يطير في الهواء بسبب الانفجار، وأشلاء متناثرة، ورأس رجل مفصولاً عن جسده، وأقداماً وأيادي بترت، وأطفالاً كانوا نائمين دفنوا تحت الرمال".
بدوره، يمسك إياد ماضي سرير طفله الرضيع مستهجناً استهداف الأطفال الذين أصبحوا "بنك أهداف الاحتلال". يتجول ماضي بين حطام خيمته التي سويت بالرمال ودفن أجزاء منها، حاملاً حليب أطفاله، ويشير إلى المكان الذي كانت تنام فيه بناته الثلاثة اللواتي غطتهن الرمال، وإلى مكان نوم طفله الذي كان يقف بجواره، وأصيب بشظية كادت تقتله، لكنه نجا بأعجوبة.
يقول لـ "العربي الجديد" بنبرة استهجان: "كان المشهد أشبه بانفجار بركان، فهل أصبح أطفالنا وحليبهم والملح والخبز الذي يأكلونه أهدافاً للاحتلال؟ نطالب الدول العربية والمجتمع الدولي بوقف شلال الدم، ووقف الحرب التي يشنها الاحتلال على غزة. حفرت بيدي من دون معدات، وأزلت كومة من الرمال كانت على وشك أن تخنق بناتي، وأخرجتهن من تحت ردم الخيمة، بينما كان المشهد من حولنا مرعباً".
ويصف محمد زعرب ما جرى بأنه أشبه بـ"يوم القيامة"، قائلاً لـ "العربي الجديد" وهو يقف أعلى الحفرة العميقة التي خلفها القصف: "كنت جالساً مع عائلتي، وفوجئت بنزول الصواريخ، فاهتزت الأرض، وانبطحنا أرضاً، ثم تناثرت الشظايا التي كانت بأحجام كبيرة، وحين خرجت من الخيمة كان المشهد في الخارج مرعباً، فالنساء والأطفال يصرخون، والإسعاف وصلت إلى المكان لمحاولة إنقاذ المصابين، واشتعلت الحرائق في الخيام. بدأنا بانتشال الشهداء وإسعاف المصابين، وكثيرين لم نجدهم، وربما لازالوا مدفونين تحت الرمال، أو أسفل هذه الحفرة الكبيرة التي ابتلعت ثلاثة خيام".
وأكد المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، في بيان، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي ارتكب مجزرة مروّعة بقصف خيام للنازحين في منطقة المواصي، ما خلف أكثر من 40 شهيداً و60 جريحاً، فضلاً عن عشرات المفقودين، وأضاف البيان أن الطواقم الحكومية والإغاثية انتشلت جثامين عشرات الشهداء، ونقلت عشرات الجرحى من مكان القصف، وتأتي هذه المجزرة بالتزامن مع تدمير الاحتلال للمنظومة الصحية وإخراج المستشفيات عن الخدمة.
وتابع البيان: "نُدين بأشد العبارات ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي لهذه المجزرة المروعة بحق المدنيين من النازحين، ونُدين استخدامه لأساليب التضليل الإعلامي، ونشر الأخبار الزائفة والشائعات والأكاذيب في محاولة لحرف الأنظار عن جرائمه المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، كما نُدين اصطفاف الإدارة الأميركية مع الاحتلال في جريمة الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة، ونُحمل الاحتلال والإدارة الأميركية المسؤولية الكاملة عن استمرار هذه المجازر المروّعة ضد الأطفال والنساء".
وطالب البيان المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختلفة وكل دول العالم الحر بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي لوقف حرب الإبادة الجماعية، وإنهاء شلال الدم المتدفق في قطاع غزة، كما طالب بملاحقة الاحتلال قانونياً لوقف هذه المهزلة التاريخية الإنسانية.