فقد آلاف الليبيين منازلهم وممتلكاتهم في مناطق شرقي البلاد، لكن الدمار كان أفدح في مدينة درنة (شمال شرق)، حيث خلف انهيار سد وادي درنة دماراً هائلاً في أحياء كاملة بالمدينة، كما خلف آلاف الضحايا والمفقودين.
ويتوقع أن يرتفع عدد الوفيات كون طبيعة المنطقة التي وقعت فيها الفيضانات تزيد من صعوبة الوصول إلى العالقين تحت الأنقاض، خاصة بعد أن جرف الفيضان كثير من الطرق، وغمر البعض الأخر تحت الطين.
يعمل الناجي عبد القادر رمضان حمد (45 سنة) في وزارة التربية والتعليم بدرنة، وهو يعالج حالياً في مركز بنغازي الطبي، ويروي لـ"العربي الجديد": "في الليل، كانت سيول وادي درنة تجري بشكل طبيعي، ثم سمعنا فجأة صوتاً أشبه بالانفجار، وماهي إلا ثوان معدودة حتى بدأت المياه في الجريان بقوة غير معهودة، ثم اقتحمت البيوت الموجودة بالقرب من الوادي. دخلت مياه الفيضان منزلي بينما كانت أسرتي داخله، ولم أستطع الوصول إليهم. لم أكن أدرك حينها أنني سأواجه ساعات عصيبة انتهت بفقدان عائلتي المكونة من زوجتي وأبنائي الأربعة، كما تعرضت لإصابات جسيمة في قدمي، وهي تتطلب رعاية صحية مطولة".
يتذكر التفاصيل قائلاً: "صعدت إلى السطح لأرى ما الذي يحدث خارج المنزل، وطلبت من أبنائي الصعود خلفي مع والدتهم، لكن سرعان ما تدفقت المياه إلى داخل البيت محطمة الأبواب والنوافذ، ثم أخذت تدمر كل شيء. منزلي قريب من شلال ووادي الشواعر، وأعيش فيه منذ أكثر من 18 عاماً في هدوء وسلام. لم أتوقع أن يتحول هذا الهدوء إلى كارثة تخلف آلاف القتلى. كانت المياه تضرب المنزل بقوة، وفوجئت عندما رأيت ارتفاع الأمواج، ففي رمشة عين غمرت المياه المنزل بالكامل، وفقدت الجميع خلال محاولتي الصعود إلى السطح، ولم أستطع إنقاذهم".
قرر الناجي المنكوب كغيره من سكان المدينة الصعود إلى الطبقات المرتفعة من المنزل لتجنب السيول التي كانت محملة بالطمي والصخور والأخشاب والسيارات وغيرها، لكنه صدم حين رأى ارتفاع منسوب المياه الذي وصل إلى الطبقات الثانية والثالثة. يضيف: "صعدت إلى السطح، وكانت المياه تتبعني، وتقذف الصخور والأشجار والسيارات، رغم أن منزلي يقع في المنطقة المرتفعة من محيط الوادي".
يتابع: "جرفتني المياه، فحاولت النجاة من خلال التعلق بالأشجار المزروعة على ضفاف الوادي، وبالفعل تمكنت من الوصول إلى المنطقة الجبلية الجافة، والتي تبعد كيلومترات قليلة من السد، ثم استطعت بمساعدة بعض المواطنين الوصول إلى أقاربي في منطقة أخرى، وطلبت منهم المساعدة في إنقاذ أسرتي التي فقدت الاتصال بها خلال محاولة الهرب من السيول الجارفة، لكن الوقت كان قد تأخر كثيراً على إنقاذهم".
بدورها، فقدت حنان البرعصي (46 سنة)، من سكان قندولة، المنزل الذي كانت تعيش فيه مع أسرتها عندما غمرت السيول المنطقة بعد انهيار السدود الترابية على جوانب الطرق، ما أدى إلى اقتحام المياه للمنازل. تقول: "هطل المطر الغزير لساعات طويلة، ظلت السماء تمطر لأكثر من 10 ساعات متواصلة. غرق المنزل بينما كنا نائمين ليلاً، وحين وصلت المياه إلى أسرتنا، استيقظنا مصدومين، ولما حاولنا الخروج من المنزل لم نستطع، فمنسوب المياه وصل إلى أكثر من متر ونصف المتر في داخل المنزل، وكان من الصعب الخروج".
تستذكر حنان ليلة الفيضان بالدموع: "فقدت أبناء عمومتي الثلاثة في تلك الليلة، وأشكر الله أنني نجوت مع أسرتي من الفيضان، فقد ساعدتنا قوات الأمن والجيش على الخروج من المنزل، ونقلتنا بالسيارات العسكرية إلى أماكن آمنة في مدينة البيضاء (نحو 100 كيلومتر من درنة)".
تحاول البرعصي على غرار بقية العائلات الناجية أن تضمد جراحها، لكنها لا تستطيع التغلب على ذكريات الفاجعة التي تطاردها، فالشواهد والتداعيات لازالت قائمة، ولا تمنحها أي فرصة للنسيان أو التجاهل، ما يزيد حزنها وألمها. تقول: "عدنا إلى منزلنا في وقت لاحق، ظناً أنه يمكننا إعادته إلى حالته الأولى قبل الفيضان، لكننا اكتشفنا أن ذلك سيكون صعباً في الوقت الحالي، فالجدران انهارت أجزاء كبيرة منها، والسيارات دفعتها قوة المياه إلى داخل المنزل، وأحدثت فيها أضرار بالغة، وما زال الطين والوحل يغمر الغرف في كل الطوابق".
وتغرق ليبيا في الفوضى منذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011، وتتنافس على السلطة فيها حكومتان، الأولى تتخذ من العاصمة طرابلس في الغرب مقراً، ويترأسها عبد الحميد الدبيبة، وهي الحكومة المعترف بها دولياً، وأخرى في شرق البلاد الذي ضربته العاصفة، ويترأسها أسامة حمّاد، وهي مكلّفة من مجلس النواب، ومدعومة من اللواء المتقاعد خليفة حفتر.