أحال وادي درنة الذي يقسم المدينة التي تضم 300 ألف ساكن إلى نصفين، درنة مدينة منكوبة بعدما كان يشكل شريان حياتها، وتغذي عيونه عدداً من مزارعها، ويوفر مياه الشرب لسكانها. ويتفق الخبراء على أن انهيار سد وادي درنة (يتألف من جزأين، سد سيدي أبو منصور وسد البلاد وهو أكبرهما والأقرب جغرافياً إلى المدينة) أدى إلى غرق المدينة. وبسبب انهيار السدين في الوادي الذي يعد المكان الوحيد الذي تجتمع فيه المياه المنحدرة من كافة وديان الجبل الأخضر الليبي بشرق البلاد، سجلت درنة وحدها عددا كبيرا من القتلى، كما أعلن رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب أسامة حماد ومصادر طبية.
يقدر مختار المدينة الصديق بن طاهر، عدد سكان أحياء وسط البلاد بالمدينة القديمة بـ 35 ألف نسمة. وبسبب جرف قوة مياه الفيضانات لغالبية أجزاء تلك الأحياء، يرجح أن تكون التقديرات الرسمية التي تتحدث عن آلاف القتلى والمفقودين صحيحة.
ويتحدث عن وادي درنة، قائلاً إن طوله داخل المرتفعات الجنوبية للمدينة يصل إلى سبعين كيلومترا، وتتصل به غالبية شعاب الأودية المجاورة كوادي بومسافر ووادي الضحاك وغيرهما. ويقول إن "قوة تدفق السيل في الوادي تعتمد أساساً على كميات الأمطار. في ستينيات القرن الماضي، شهدت المدينة فيضاناً كبيراً. وفي السنوات اللاحقة، كان سيلان الوادي عادياً وينتهي إلى البحر بسبب قلة منسوب الأمطار. لكن كميات الأمطار التي حملتها العاصفة دانيال جعلت كل الشعاب الأخرى تصب فيه، ما رفع منسوب المياه إلى درجة لم يحتمل السد صدها".
يتابع بن طاهر: "بني السد عام 1961، وتمت صيانته خلال عامي 1977 و1986. وفي المرة الأخيرة، أضيف إليه سد صغير لزيادة قوة تحمله. لكن مع مرور الوقت، تهالكت بنيته التحتية، وخصوصاً بالوعات التصريف التي من المفترض أن تسرب فائض السد". ويقول: "طريق الوادي الواصل إلى المدينة وحتى البحر ما بعد السد متعرجة. وزاد اصطدام قوة تدفق المياه بحواشي التعرجات وحملها الصخور الكبيرة من قوته التدميرية، ووصلت إلى المباني على ضفتي الوادي". ويوضح أنه "تقع أعلى حواشي تعرجات الوادي العديد من منازل السكان التي انهارت بسبب جرف الأرض تحتها، وهذا سبب آخر ساهم في زيادة قوة التدمير".
وتناقلت فيديوهات التقطها ناجون من المدينة مشاهد بداية تدفق مياه الوادي وارتفاع منسوبه حتى غاب طرفاه وسط المياه، فيما كانت السيارات تطفو أعلاه وينقلها عبر تياراته بشكل قوي وسريع. وأظهرت فيديوهات تحول السدين إلى ركام من الأتربة بعدما كان ارتفاعهما يصل إلى 40 متراً، بحسب المهندسة السابقة في مكتب خدمات بلدية درنة مرضية الجياش.
بالإضافة إلى كميات المياه الكبيرة التي تدفقت من أودية المناطق المجاورة في وادي درنة، تقول الجياش لـ "العربي الجديد" إن بالوعات تصريف المياه المعدة أساساً لتكون أحد صمامات أمان صلابة السدين ربما انسدت بفعل الأتربة، وما يجره السيل معه من أشجار ومخلفات. وتوضح: "السبب الرئيسي من دون شك يكمن في انعدام الصيانة منذ عام 1986".
تضيف الجياش: "لا يتعلق الأمر ببنية السدين فقط، بل في مسارهما وصولاً إلى البحر. فضفتا الوادي من الإسمنت ومصممتان لجعل المياه تنساب بشكل سريع نحو البحر. لكن التشققات والتصدعات التي تعتريها تؤكد أنه لم تجر لها أي أعمال لتدعيمها منذ عقود طويلة".
إلى ذلك، يتحدث الأكاديمي بجامعة مدينة درنة عبد المنصف العوامي، عن قصور في تنفيذ مخططات المدينة وإعادة تنظيمها، موضحاً أن "مخطط المدينة معد ضمن خطة التنمية لعام 1983، لكن لم ينفذ منه شيء بسبب اعتراضات سكان المدينة القديمة، ورفضهم ترك منازلهم في مقابل تعويض مادي". ويوضح في حديثه لـ "العربي الجديد" أن المخطط الذي كان سيحول المدينة القديمة إلى معلم تاريخي سياحي "لم ينفذ، بل زاد سكان المدينة القديمة من الأبنية العشوائية بشكل كثيف في ظل ارتفاع عدد السكان مع مرور الوقت، وافتتحت محال تجارية بسبب تركز حركة التجارة وسط المدينة".
ويسأل العوامي عن "كيفية مواجهة الآتي، وخصوصاً أننا ما زلنا في بداية فصل الشتاء. حتى لو لم تهب عاصفة متوسطية، فأي تدفق في الوادي كفيل بتوسيع دائرة الخسائر، وهو ما يجب الالتفات إليه سريعاً".
يشار إلى أنه عام 2011، فاض الوادي بعدما حاولت السلطات المحلية فتح السدود لتصريف المياه التي تراكمت وقتها بفعل الأمطار الغزيرة وكادت المدينة تغرق.