الضاحية الجنوبية... البيوت تموت إذا غاب سكّانها

10 يناير 2025
بعض من الدمار في الضاحية الجنوبية لبيروت، 18 ديسمبر 2024 (محمد أمين كانيك/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد وقف إطلاق النار في لبنان، عاد سكان الضاحية الجنوبية لبيروت إلى منازلهم المتضررة، لكن القلق من تجدد الحرب دفعهم للبحث عن سكن في مناطق أكثر أماناً، مما أدى إلى نزوح جديد وتحول بعض الأحياء إلى مناطق مهجورة.
- فدوى العلي وسوسن وهبة قررتا بيع منازلهما في الضاحية والانتقال إلى مناطق أكثر أماناً بسبب الدمار وفقدان الشعور بالاطمئنان.
- حسين يزبك انتقل إلى البقاع بعد تضرر منزله، ويسعى لبيع شقته في الضاحية لتأمين احتياجات عائلته بعيداً عن الخطر.

لم تكن العودة إلى الضاحية الجنوبية لبيروت بعد إعلان وقف إطلاق النار في لبنان سهلة بالنسبة لكثيرين، الذين اختاروا بيع بيوتهم أو هجرها، إما بسبب الدمار الكبير أو خوفاً من تكرار الحرب 

بعد إعلان وقف إطلاق النار في لبنان في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، استقبلت الضاحية الجنوبية أهالي المنطقة بعد نزوح دام لأكثر من شهرين في مختلف مناطق البلاد. وعلى الرغم من كل محاولات السكان اليومية التعايش مع أسلوب حياة اختلف كثيراً عما اعتادوا عليه قبل بدء العدوان الإسرائيلي على مناطقهم، إلا أنهم لم يتمكنوا بعد من الشعور بالاطمئنان داخل منازلهم المتضررة من الحرب التي عادوا إليها، فترك بعضهم منازلهم للمرة الثانية بحثاً عن الأمان في مناطق أخرى. 
وفقد البعض الشعور بالارتياح داخل بيوتهم؛ فبعد أسابيع من عودتهم إليها، وانغماسهم بتصليح الأضرار التي لحقت بها وترميمها، بدأ عدد لا يُستهان به من الأهالي بالبحث عن شقق سكنية أخرى في مناطق بعيدة عن الضاحية الجنوبية خوفاً من تجدد الحرب فجأة. 
وتشهد الضاحية الجنوبية حركة نزوح جديدة، ويعمد بعض أصحاب الشقق إلى عرضها للبيع في مقابل تأمين شقق أخرى في مناطق بعيدة نسبياً عن العاصمة بيروت، تجنباً لخوض تجارب مماثلة لتلك التي عاشوها منذ أشهر. وتحولت منطقة صفير إلى منطقة مهجورة، بسبب الدمار الذي لحق بالمباني والمحال التجارية الموجودة فيها، وتحولت إلى منطقة غير قابلة للسكن بالمقارنة مع ما كانت عليه في السابق، وتحتاج إلى أكثر من عامين على الأقل ليتمكن جميع الأهالي من العودة إليها. 
تملك فدوى العلي شقة سكنية في هذه المنطقة، واضطرت إلى النزوح منها خلال الحرب متجهةً إلى منزل آخر في محيط منطقة خلدة. وبعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، عادت إلى منزلها برفقة عائلتها لتصليح الأضرار التي تسببت بها الغارات الإسرائيليّة. لكن بعد أسابيع قليلة، قررت بيع هذه الشقة والانتقال للسكن في منطقة أخرى. وتقول لـ"العربي الجديد"، إنها انتظرت بفارغ الصبر إنتهاء الحرب للعودة، إلا أن الأمر اختلف كثيراً بعد هذه الفترة، وفوجئت بالمنطقة التي باتت شبيهة بـ"مدن الأشباح". بدأت بترميم منزلها وتصليح واجهات الزجاج، لكنها قررت وعائلتها ترك هذه الشقة والتفتيش عن واحدة أخرى خارج بيروت، وطلبت من أصدقائها مساعدتها للإسراع في بيع الشقة. 
تقول: "لم تعد المنطقة كالسابق. كل الشوارع مدمرة وتحتاج إلى وقت طويل لإعادتها كالسابق، وربما سيستمر هذا الحال لسنوات طويلة، وخصوصاً أن الردم لا يزال مُتراكماً على أطراف الطرقات والشوارع الرئيسية. أبلغت جيراني برغبتي في بيع الشقة بمبلغ يخولني شراء شقة صغيرة شبيهة بتلك التي نزحت إليها خلال الحرب. أولادي يخشون من تجدد الحرب بعد انتهاء مدة الهدنة أو أن تتعرض المنطقة لقصف فُجائي فلا نتمكن من مغادرتها بسرعة. وبعد انتهاء الحرب، بات أطفالي يخشون الضوضاء والأصوات القوية أو أصوات طلقات الرصاص. حاولت تهدئتهم لكن الأمر باء بالفشل، وهم يطلبون مني بشكل يوميّ مغادرة المنطقة، وخصوصاً عندما تُسيطر طائرات الاستطلاع الإسرائيلية على سماء بيروت والضاحية تحديداً".

تتابع: "الغُبار يملأ المنطقة، والظلام يسيطر على بعض الشوارع. ومع اقتراب موعد انتهاء فترة وقف إطلاق النار في 27 يناير/ كانون الثاني الجاري، نتخوف من أن تتجدد الحرب الإسرائيليّة وتُرمى الصواريخ فوق رؤوسنا من دون أي إنذار مسبق أو من دون وضع أي خرائط تحذيرية. حتى أننا ما زلنا بشكل يوميّ نراقب صفحة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي على منصة إكس، خوفاً من أن يعلن أي تهديد للمنطقة". 
في منطقة الشياح على مقربة من كنيسة مار مخايل في الضاحية الجنوبية، كانت سوسن وهبة، التي نزحت إلى منزل شقيقتها في منطقة الدامور (قضاء الشوف في محافظة جبل لبنان)، خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان، تعيش. وبعد وقف الحرب، عادت إلى منزلها برفقة والدتها لتصليح الأضرار داخل المنزل. تقول لـ"العربي الجديد"، إنّها قررت بيع شقتها السكنية وترك المنطقة بالكامل، مؤكدةً عدم رغبتها بالعودة إليها. وتضيف: "عُدنا إلى منزلنا بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار. بدأنا بتنظيف المنزل وترتيبه، لكن المنطقة باتت مختلفة تماماً ومخيفة في الوقت نفسه. حاولنا الاعتياد على هذا الأمر ولم ننجح بعد. أبلغت أهالي المنطقة برغبتي في بيع شقة العائلة التي مكثنا فيها لأكثر من عشرين سنة، وتواصل معي بعض الجيران وأبدوا رغبتهم بشراء هذه الشقة، إذ لا مانع لديهم من البقاء في الضاحية. وبدأت التفتيش عن منزل في منطقة أعتبرها آمنة نسبياً وبعيدة عن الضاحية الجنوبية".

يصعب العيش في بعض مناطق الضاحية، 18 ديسمبر 2024 (محمد أمين كانيك/ الأناضول)
يصعب العيش في بعض مناطق الضاحية، 18 ديسمبر 2024 (محمد أمين كانيك/ الأناضول)

وتشير إلى أنه "حين بدأنا ترتيب الأغراض داخل المنزل، لم أتمكن من تفريغ حقائب ثيابنا. وحتى اليوم، لم نشعر بعد بالاطمئنان الكافي لتوضيبها داخل الخزائن، وبالقرب من الباب الحديدي وضعنا ثلاث حقائب بداخلها بعض الثياب وكل أوراقنا الثبوتية والشهادات الجامعية وكل الأوراق الرسمية، وهذا نابع من خوفنا من اندلاع حرب أخرى في أي ساعة. ففي عام 2006، غادرنا المنطقة بسبب الحرب لكن بعد رجوعنا إلى المنزل كانت الحياة طبيعية، وبدأ إعمار الضاحية الجنوبية. لكن هذه المرة، نشعر بأن الأمور ليست على ما يُرام. وفي كل مساء حين نشعر بأن التصريحات الإسرائيليّة توحي بأن المنطقة قد تنفجر فجأة، نعجز عن النوم بسهولة، وخصوصاً أن والدتي مسنة وتحتاج إلى رعاية واهتمام. وفي حال عدم قدرتنا على بيع الشقة بسهولة أو بسعر يناسبنا، فإننا سنتجه إلى عرضها للإيجار والتفتيش عن شقة أخرى للايجار في منطقة بعيدة. وجدنا شقة على مقربة من شقيقتي في الدامور ونحاول الاتفاق مع صاحبها للانتقال خلال الأسابيع المقبلة". 
تضيف: "لا تزال الأحياء مُدمرة، والكثير من المحال التجارية والأسواق لم تتمكن بعد من فتح أبوابها. لذلك نتوجه صوب العاصمة بيروت بشكل يومي لشراء احتياجاتنا والأدوية التي تحتاجها والدتي. لم نعد قادرين على التنقل في منطقتنا من دون وضع الكمامة بسبب روائح الصواريخ والرُكام. ومن أبرز الأسباب التي تدفعنا للهجرة هو شعورنا بأن هذه المنطقة ستكون دائماً معرضة للخطر. لم يعد في إمكاننا البقاء فيها في ظل تعرضها لحرب إسرائيليّة كل عقد من الزمن أو أكثر. كما أننا نفضل بيع الشقة على أن تُدمر بصاروخ إسرائيلي في أي حرب مرتقبة". 

في السياق نفسه، يملك حسين يزبك شقة سكنية في منطقة المريجة، التي تعرضت لتدمير هائل. وبعد عودته إلى منزله، اكتشف أنه يحتاج إلى مبالغ مالية مرتفعة لترميمه، وهو بانتظار اللجنة المتخصصة في حزب الله للكشف عليه وتقديم التعويض المالي. ويقول: "أُجبرت على العودة إلى منزلي بسبب عدم قدرتي على المكوث لدى أقربائي في بيروت أكثر، لكن منزلي يحتاج لآلاف الدولارات لتصليحه وإعادته كالسابق. اشتريت منزلي بعد سنوات من العمل المتواصل أنا وزوجتي لنتمكن من تسديد كل التكاليف، لكننا اليوم نحاول إيجاد حلول تناسب كل أفراد عائلتنا. في هذه المنطقة، ربيت أطفالي. وبالقرب من منزلي توجد مدارس أطفالي، لكنهم يرفضون البقاء في الضاحية الجنوبية، ويطلبون مني اتخاذ القرار النهائي. قررنا الانتقال إلى منزلنا في البقاع. وبعد اندلاع الحرب، انتقلت وأطفالي لمدة شهر إلى البقاع. وعلى الرغم من الظروف الصعبة في تلك المناطق وبرودتها القاسية، إلا أنها تعتبر خياراً أفضل من البقاء في الضاحية الجنوبية في ظل هذه الظروف المتأرجحة. ففي البقاع، نملك منزلاً صغيراً متواضعاً. أمنّا كل احتياجاتنا بداخله، وكان بعيداً عن الاكتظاظ السكاني. أما منزلنا في الضاحية الجنوبية، فلم يعد مناسباً للسكن. غبار الركام يحيط بالمنزل ولا يتمكن أطفالي من الوقوف على شرفات المنزل. كل المحال التجارية مقفلة. قررنا الانتقال إلى البقاع ووضع الأطفال في مدارس هناك. لذلك، فضلنا بيع هذه الشقة ووضعنا إعلانات على مواقع التواصل الاجتماعي وأبلغنا كل معارفنا تمهيداً لترك المنطقة نهائياً. وعلى الرغم من صعوبة هذا القرار وخصوصاً بعدما قضيت أكثر من ثلاثة عقود في بيروت، إلا أنه قرار مناسب للعائلة بأكملها. حتى أنني أوضحت لجيراني أنني أرغب باستئجار هذه الشقة، وخصوصاً أن بدلات إيجار الشقق السكنية ارتفعت جداً في هذه المنطقة رغم كل الدمار المحيط بها. وبهذا المبلغ أتمكن من تأمين احتياجات أطفالي".
هكذا، غدت الضاحية الجنوبية منطقة غريبة عن أهلها وسكانها الذين يتوجسون من أصوات الطائرات الحربية، ويفضلون بيع منازلهم عوضاً عن خسارتها في حال نفذت الطائرات الإسرائيلية غارات على مناطقهم من دون أي إنذارٍ.   

المساهمون