يعاني أساتذة الجامعات السودانية من ظروف صعبة جداً دفعت بعضهم إلى البحث عن مهنة إضافية تساعدهم في الصمود بالمهنة، بعد هجرة الآلاف منهم إلى دول الخليج العربي. الدكتور عبد الحفيظ حسن حسب الله، الأستاذ بكلية التربية، جامعة "دنقلا"، وجد نفسه مضطراً للعمل في البناء بأجر يومي، وذلك بغرض ردم الفرق الشاسع بين راتبه الشهري واحتياجات أسرته اليومية، خصوصاً بعد التصاعد في أسعار غالبية السلع والخدمات وتضاعف فاتورة الدواء في السودان. وانتشرت صورة لحسب الله وهو بين الطوب والطين، متعرقاً بشدة، بينما كان يستغل فترة توقف الدراسة في الجامعات للحصول على أجر يومي لا يتعدى 400 جنيه (ما يعادل دولارين أميركيين) فأثارت الصورة التي جرى تداولها بشكل كثيف ضجة واسعة على المستوى الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي، وفتحت باب النقاش حول أوضاع أساتذة الجامعات في السودان. يقول حسب الله، وهو أب لخمسة أبناء، لـ"العربي الجديد"، إنّه لجأ مع الضيق المعيشي والاحتياجات اليومية، للعمل الإضافي كعامل بناء، في عز الشمس الحارقة، لأنّ راتبه في ذلك الوقت لم يتجاوز 10 آلاف جنيه (أقل من 100 دولار). زاد الراتب لاحقاً بعد تصحيح الأجور العام في الدولة. ولم ينزعج حسب الله من تداول صورته، بل على العكس، يقول إنّه سعد لذلك من أجل لفت انتباه الدولة والمجتمع والجامعات نفسها للحالة التي وصل إليها الأستاذ الجامعي في السودان، والتي استمرت بعد قيام الثورة التي رفعت شعار العدالة كواحد من شعاراتها.
يوضح حسب الله أنّه لا يعمل في مهنته الإضافية كعامل بناء فقط، بل يحمل معه أدوات كهربائية ليكون جاهزاً لإصلاح الأعطال وصيانة المعدات في أيّ لحظة وفي أيّ فرصة، ويؤكد أنّه لن يتردد في العمل في أيّ مهنة إضافية حتى يوفر قوت يومه وأدوية أبنائه، ويدفع ثمن إيجار منزله. لافتاً إلى أنّ الدولة لا توفر له كلّ ذلك، وأنّ زيادة الرواتب الأخيرة التي منحت لأساتذة الجامعات ضمن الهيكل الراتبي الجديد كانت خطوة مهمة، لكن سرعان ما ذهبت نتائجها سدى نتيجة الغلاء المتصاعد في أسعار السلع والخدمات. ويشير إلى أنّه بعد انتشار صورته، تلقّى اتصالات من كثير من زملائه الأساتذة الجامعيين، وكلّ واحد منهم أخبره عن طريقته في سدّ الفجوة بين الراتب والاحتياجات. مؤكداً أنّ بعضهم يقود "توك توك" وآخر يعمل سمساراً للعقارات والسيارات، فيما يبيع قسم منهم بطاقات الشحن الهاتفية.
من جانبه، يوضح الدكتور صلاح شلبي، نائب رئيس قسم الحاسوب بجامعة "أم درمان الإسلامية"، أنّ ضيق الحال دفعه إلى استخدام سيارته الخاصة كسيارة أجرة يعتاش منها هو وأبناؤه، ويؤكد أيضاً أنّ هناك كثيرين من زملائه فعلوا الأمر نفسه، ومنهم من انضموا إلى شركة تعمل في نقل الركاب عبر تطبيق هاتفي معروف. ويقرّ شلبي، في حديثه إلى "العربي الجديد"، بأنّ عملهم الإضافي يؤثر في أدائهم الأكاديمي، خصوصاً تحضير المحاضرات، وإعداد الأوراق العلمية، ويقلص زمن الإشراف على الطلاب. ويشدد شلبي على أهمية تقديم الحكومة كلّ ما يحتاجه الأستاذ الجامعي حتى يتفرغ تماماً لمهنته لضمان جودة الخدمة التعليمية والبحثية المقدمة.
حسب الله وشلبي نموذجان فقط للأوضاع المتردية للأساتذة الجامعيين ومشاكلهم التي لا تقتصر على ضعف الرواتب والمخصصات المالية، إنّما تبرز مشاكل أخرى مثل انعدام فرص التدريب الخارجي والداخلي، والذي توقف منذ سنوات، باستثناء حالات نادرة لعبت فيها المحسوبية دوراً، أثناء سنوات النظام السابق. ومن الأعباء أيضاً أزمة السكن، فمعظم الأساتذة لا توفر لهم الجامعات سكناً، ويضطرون إلى السكن في الضواحي نتيجة غلاء الإيجارات في وسط الخرطوم. أما بخصوص النقل، فبعضهم يستقل الحافلات العامة للوصول إلى عمله والعودة منه، مع ما فيها من اكتظاظ، خصوصاً في الفترة الأخيرة. كذلك، لا تتوفر للأساتذة أجهزة كمبيوتر مجانية، أو خدمات إنترنت داخل الجامعات.
كذلك، يلفت بعض الأساتذة إلى أنّ سياسات الدولة ولوائح الجامعات لا تحفز على البحث العلمي، ويشيرون إلى انعدام العدالة في آلية الترقية إلى الدرجات الوظيفية العليا، كما التدخل السياسي في تعيين مديري الكليات وعمدائها، وهي من تركات النظام السابق، لكنّها استمرت بعد الثورة ببروز أحزاب جديدة حاكمة، بحسب أساتذة ينبهون كذلك إلى عدم وجود نقابات فاعلة تدافع عن حقوقهم.
في ظلّ هذا الوضع، كانت النتائج كارثية على الجامعات السودانية، إذ هاجر في السنوات الأخيرة ما يقدر بنحو 13 ألف أستاذ مؤهل إلى دول الخليج العربي، بالإضافة إلى عدد منهم هاجروا إلى أوروبا. وانعكس عدم الاهتمام بتلك الشريحة تدنياً في مستويات الجامعات، وضعفاً في جودة التعليم الجامعي، وفي مستويات الخريجين عموماً.
في الأيام الماضية، تصاعدت حدة التوتر بين الحكومة وأساتذة الجامعات، مع رفض وزارة المالية تطبيق الهيكل الراتبي الجديد، ما دفع الأساتذة إلى التلويح بسلاح الإضراب، وشكلت لجنة تسييرية نقابية من الأساتذة للضغط على الحكومة لتنفيذ عدد كبير من المطالب، أولها إلزام وزارة المالية القيام بدورها في حفظ حقوق الأستاذ الجامعي وعدم إهدار مكتسباته، وضرورة وضع راتبه كبند أول، مثل بقية المؤسسات الحكومية، والتوصل إلى حلّ جذري حتى لا يتكرر ما حدث من تأخر في الأشهر الماضية، مع المطالبة بتمييز الأستاذ الجامعي، مع ما يشمل ذلك من مميزات عينية كالجواز الدبلوماسي، والحصانة الإجرائية، وإعطاء بطاقة الأستاذ الجامعي ميزة دخول المرافق الحكومية كافة، وتوفير السكن والسيارة وغيرها.
يقول عمر علي بلولة، رئيس لجنة الهيكل الراتبي، إنّ اللجنة مصممة على مطالبها تلك، لأنّ الأستاذ الجامعي يقوم بأربع وظائف في آن واحد هي: التدريب، والبحث العلمي، والتدريس، وخدمة المجتمع، وبالتالي وجب أن يكون له راتب كافٍ وحوافز عينية عدة. يوضح بلولة لـ"العربي الجديد" أنّ الراتب الحالي غير كافٍ، لأنّ أيّ أستاذ لديه 3 أطفال فقط، يحتاج إلى ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف الراتب الحالي شهرياً. يضيف أنّه مع ضيق الأحوال، يضطر الأساتذة للعمل في أكثر من جامعة في الوقت نفسه، ما يؤثر سلباً في الأداء.