لا أعلم إلى أين سيأخذني قلمي في رصد وتوثيق مئات المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق أهالي مخيم جباليا شمالي غزة، وسط جرائم الإبادة المستمرة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن كلّ ما أعرفه، أنني خذلت نفسي ودماء شهداء الحيّ الذي أسكنه، حين انتظرت كل هذه المدة للبدء في الكتابة عنهم. ولأنه لا وقت للتبريرات، فإنّ هذه الشهادات بمثابة بوابة على مئات القصص عن شهداء في مخيم جباليا مُسحوا من السجلّ المدني، في الوقت الذي تستمر فيه آلة الحرب بحصد المزيد من أرواح الأبرياء.
مقابل منزلنا في حيّ السنايدة "بلوك 6" الواقع في مخيم جباليا شمالي غزة، كان يقابلنا منزل العمّ عمر أبو سلطان (55 عاماً)، صغير وجميل الأثاث، مغطّى بالقرميد، تفوح منه باستمرار رائحة الليمون.
صاحب المنزل العمّ عمر، هادئ جداً ومنشغل على الدوام بتنجيد الكنب من خلال عملية تجديد وتحديث أثاثه، متزوج من سحر الهور (53 عاماً) ولديهم 6 أبناء. تقريباً كنّا أشبه بعائلة واحدة، طباعهم تشبهنا، لدرجة حين كنت طفلاً كانت لديّ مائدتا طعام، واحدة من إعداد أمي وأخرى عند الجارة سحر.
سحر صديقة أمّي المقربة، وعكس شخصية زوجها، فهي عبارة عن كتلة كبيرة من الطاقة والحيوية، ما جعل أبناءهما خليطاً متجانساً من هذه الطباع. الابن الأكبر أحمد (30 عاماً)، يشبه والده تماماً، هادئ جداً ومسالم، خفيف الظل، لم أذكر يوماً أنه تشاجر مع أحد، لكن في رحلته الدراسية، عبارة عن قنبلة من النشاط، إذ تابع دراسته الجامعية في تخصص السكرتارية الطبية خلال ثلاث سنوت ونصف. أما الابن الثاني محمد، وعمره (27 عاماً)، فإنه يكاد يكون طفرة العائلة، أنهى دراسة اللغة العربية في جامعة الأزهر، بجانب ذلك يُعَدّ من مواهب مخيم جباليا في الفولكلور والدبكة الشعبية، إذ شارك في مهرجانات ومناسبات وطنية كثيرة. في حين أن الابن الثالث محمود (25 عاماً)، فهو تقريبا نسخة عن والده، ولم يأخذ من أمه إلا شكلها. فيما كانت شهد (22 عاماً) البنت الرابعة والوحيدة بين الذكور، وهي كرزة البيت، تشبه والديها في كل شيء، ثم الصغير عبد الله (12 عاماً). أما مراد، أزرق العينين، فقد غادر الحياة وهو بعمر العامين.
الحزن الأول.. عن صانعة الكيكة
قبل 12 عاماً تقريباً، تعرضت عائلة عمر أبو سلطان لصدمة كبيرة، حين لقي الابن مراد مصرعه في حادث سير، كان ذلك مؤلماً على جميع سكان الحيّ، فما بالك بأسرته، والدته سحر دخلت في نوبة اكتئاب حادة امتدت لشهور طويلة، الأمر الذي انعكس على أمي أيضاً.
تدريجياً بعدما تعافت الجارة سحر، وبدأ الأبناء يكبرون ويقبلون على مرحلتهم الجامعية، بدأت تركز أكثر على مستقبل عائلتها. شعرت بأن العائد المادي الذي يدخره زوجها لم يكن كافياً، الأمر الذي دفعها إلى البحث عن وظيفة لتضمن مستقبل أبنائها. لم يكن سعي سحر عبثاً، إذ وجدت وظيفة في شركة "بدر وهنية"، وهي مساعدة في تجهيز الحلوى وصناعتها. مرت الأيام، وأصبحت المرأة المثابرة من ذوات الخبرة في صناعة الحلوى في الشركة وعموداً أساسياً فيها.
جهود صديقة أمي كانت لها ثمار على أبنائها، إذ جميعهم من خريجي الجامعات، وتعد عائلة أبو سلطان من العوائل المتعلمة في المخيم. حين انتهى ابنها البكر أحمد من رحلة تعليمه، وعثر على عمل محاسب في إحدى الشركات الخاصة (خارج شهادته الجامعية)، اتخذ الأبوان خطوة جريئة قبل البحث له عن عروس، إذ استلفت العائلة مبلغاً من المال، وحولت سقف القرميد إلى باطون، وبُنيَت شقة صغيرة لأحمد. ثم تزوج عروسته رواء غنيم. أنجب طفلة جميلة، سماها "سحر"، تكريماً لأمه العصامية.
لا أثر لعائلة أبو سلطان في مخيم جباليا
عصر يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحوّلت تلك العائلة إلى مجرد ذكرى، حين مسحت إسرائيل أغلب سكان حي السنايدة، بعدما ألقت قرابة ستة قنابل تزن كل قنبلة قرابة طن، وقد عرفت تلك المجزرة بأكبر مذبحة ارتكبت بعد الحرب العالمية الثانية. لم يبق منهم أحد، نصفهم دفن في تلك الحفرة ولم يعثر عليهم حتى اللحظة، والنصف الآخر جُمعول أشلاءً ودُفنوا في قبر واحد.
عاشت تلك العائلة منغلقة على نفسها، فرحة بنفسها، عرف عنها أنها مسالمة جداً، لم تحسب نفسها على أي تنظيم أو فكرة، عاشت وماتت على فكرة عشق الحياة، كل فرد فيها كان عصامياً يبحث لنفسه عن موطئ قدم.
في ما يأتي قائمة أسماء الشهداء: الأب عمر أبو سلطان (55 عاماً)، الأم سحر الهور (53 عاماً)، الابن الأكبر أحمد (30 عاماً)، زوجته رواء غنيم (27 عاماً)، طفلته سحر (عام ونصف)، الابن الثاني محمد (27 عاماً)، الابن الثالث محمود (25 عاماً)، الشابة شهد (22 عاماً)، وآخر العنقود عبد الله (12 عاماً).