إذا كان من حدث يترجم بوضوح إجرام النظام السوري على مدى سنوات الثورة العشر، فهو مجزرة الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق، التي راح ضحيتها أكثر من 1400 شخص، جلّهم من المدنيين. كما تشكّل هذه الجريمة في ذكراها الثامنة دليلاً حياً على تهرّب نظام بشار الأسد من أي محاسبة على جرائمه، بتغطية من روسيا والصين، في ظل غياب حراك دولي فاعل يدفع في هذا الإطار. ويزداد اليأس في نفوس ذوي الضحايا، الذين بدأوا يفقدون الأمل بمحاسبة مرتكبي الجريمة التي تشير كل الأدلة إلى تورط النظام وقواته العسكرية في ارتكابها فجر 21 أغسطس/آب 2013. وعلى الرغم من محاولة النظام طمس الأدلة التي تدينه بارتكاب المجزرة، إلا أن غاز السارين الذي اخترق أجساد الضحايا لا يزال حاضراً في قبور حوالي 1400 ضحية هناك، لكن جهود المحاسبة لا تزال تسير ببطء شديد في الأروقة الأممية والدولية، نظراً لمساندة حلفاء النظام له في هذا الملف، لا سيما روسيا والصين، في مجلس الأمن، وضعف المساندة الغربية للمعارضة من جانب آخر.
جهود المحاسبة لا تزال تسير ببطء شديد في الأروقة الأممية
بعد الهجوم الذي استحوذ على ضجة واستنكار دوليين حينها، كان الأمل بإنهاء النظام بتحرك غربي تقوده الولايات المتحدة، بعدما لوّحت واشنطن والإدارة التي كان يقودها الرئيس باراك أوباما، بهذا الخيار. لكن ذلك لم يحدث، بل على العكس، فإن إدارة أوباما لجأت إلى ما يشبه التواطؤ مع روسيا لتجنيب النظام هذا المصير، بإصدار القرار 2118، والذي يقضي بانضمام النظام لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية، وسحب وتفكيك ترسانته الكيميائية، ومعاقبة النظام بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في حال استخدم السلاح الكيميائي مجدداً.
لكن النظام الذي انضم إلى المعاهدة، بعدما جرى تدمير جزء من ترسانته الكيميائية، على أنها كل ما لديه، استخدم السلاح الكيميائي مجدداً باستهداف المدن والبلدات السورية عشرات المرات بعد مجزرة الغوطة، وارتكب العديد من المجازر، لا سيما مجزرتي خان شيخون في إبريل/نيسان 2017 ودوما في ذات الشهر من العام 2018، وغيرهما العديد من الجرائم باستخدام السلاح الكيميائي، الذي ثبت أن النظام لا يزال يحتفظ بجزء كبير منه. وأشارت تقارير غربية، لا سيما أحدها الصادر عن الخارجية الأميركية العام الماضي، إلى أن النظام يحتفظ بمخزون كبير من الأسلحة الكيميائية بل ويطورها بمساعدة من إيران وكوريا الشمالية.
وبالعودة إلى أحداث ذلك اليوم، فإن رواية الائتلاف الوطني المعارض أشارت إلى أن وحدات من اللواء 155 التابع لقوات النظام، والمتركزة في منطقة القلمون المحيطة بدمشق، قامت وابتداء من الساعة 2:31 فجراً بالتوقيت المحلي في 21 أغسطس، بإطلاق 16 صاروخاً، مستهدفة مناطق متفرقة في الغوطة الشرقية من دمشق، وبعد ساعة من ذلك سقطت صواريخ أخرى على الجهة الشرقية من مدينة زملكا بدمشق. وفي الساعة 2:40 فجراً استهدف القصف بلدة عين ترما بصواريخ أصابت منطقة الزينية، وبعد دقيقتين، تم إطلاق 18 صاروخاً استهدفت مناطق الغوطة الشرقية بدمشق، فسقط صاروخ بين زملكا وعربين. واستمر إطلاق الصواريخ حتى الساعة 5:21 فجراً، بسقوط صاروخين، استهدفا مدينة المعضمية في الغوطة الغربية. وقد بدأ وصول الحالات إلى المستشفيات من الساعة 6:00 صباحاً.
إلا أن ناشطين من الغوطة أكدوا لـ"العربي الجديد"، أن الصواريخ التي تحمل رؤوساً كيميائية لا يتجاوز عددها 15 صاروخاً، في حين سقط الكثير من صواريخ الراجمات بالتزامن وبعد إطلاق الصواريخ الكيميائية للحد من تحرك المسعفين في طريق نقل المصابين. وهذا ما لمّح إليه الأمين العام للائتلاف حينها بدر جاموس خلال مؤتمر صحافي، بالقول إن "كافة الصواريخ الكيميائية التي أطلقت، انطلقت من مصدر واحد وهو اللواء 155 في جبال القلمون، وبقية الصواريخ التي أطلقت على الغوطتين، غير المحملة برؤوس كيميائية، كان مصدرها قواعد أخرى قريبة، من بينها مقر اللواء 127 في منطقة السبينة بريف دمشق".
ذكر تقرير للمخابرات الأميركية أن 1429 شخصاً قد قتلوا في الهجوم
التقارير الأمنية والاستخبارية لدول أجنبية، أكدت وقوف النظام وراء الهجوم باستخدام غاز الأعصاب (السارين). أما عن أعداد الضحايا، فذكرت منظمة "أطباء بلا حدود" في تقرير لها صدر في 24 أغسطس 2013، أن 355 قد قتلوا نتيجة تسمم عصبي من بين حوالي 3600 حالة تم نقلها إلى المستشفيات. في المقابل، ذكرت المعارضة أن عدد القتلى ارتفع إلى 1466 قتيلاً قضوا نتيجة هجمات 21 أغسطس. في حين ذكر تقرير للمخابرات الأميركية أن 1429 شخصاً قد قتلوا في الهجوم، لكن النظام وصف التقرير بـ"الادعاءات الكاذبة".
فيما بعد، توالت الهجمات الكيميائية للنظام ضد المدنيين من دون حساب، بسبب استخدام روسيا لحق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن أمام أي آلية للكشف عن هوية مرتكبي الجرائم، إلى أن استطاع المجتمع الدولي التوصل إلى القرار الأممي 2235، الصادر في أغسطس 2018، والقاضي بتشكيل لجنة تحقيق مشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة، للتحقيق في المسؤولية وراء الهجمات الكيميائية في سورية.
وحددت اللجنة مسؤولية النظام بالوقوف وراء ثلاث هجمات باستخدام غاز الكلور، جميعها في إدلب (سرمين، قيمناس، تلمنس) من دون أن تتطرق لمجزرة الغوطة 2013 التي استخدم فيها غاز السارين. وجرى التمديد للجنة مرتين وسط عراقيل كثيرة من قبل الروس، قبل أن ينتهي عملها بعدما وجهت الاتهام نحو النظام بالوقوف وراء هجمة خان شيخون الكيميائية، والذي قابله رفض روسي لهذه الاتهامات، واستخدمت حق النقض لإفشال عمل اللجنة.
وشهد شهر يوليو/تموز من العام 2019 تشكيل فريق خاص بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية التابعة للأمم المتحدة، الذي عد أول فريق تحقيق لديه سلطة تحديد الجهة المنفذة للهجمات الكيميائية في سورية، بالإضافة إلى سلطات تتيح له توجيه اتهامات لمنفذي الهجمات. وفي أول تقرير له مطلع إبريل/نيسان من العام الماضي، حدد الفريق مسؤولية النظام بالوقوف وراء ثلاث هجمات كيميائية باستخدام غازي السارين والكلور السامين في بلدة اللطامنة بريف حماة، إلا أن الفريق أيضاً لم يتطرق إلى هجمات الغوطة المروعة عام 2013.
وأشار مدير "مركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سورية"، نضال شيخاني، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنه "بعد جهود مكثفة ومشاركة المركز في التحقيقات الأممية لبلورة حقائق جرائم استخدام المواد السامة وقُبيل اجتماع الدول الأطراف في اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية بأسبوع واحد، في إبريل من العام الحالي، أصدر فريق التحقيق وتحديد الهوية IIT تقريره الثاني والذي أشار من خلاله إلى تورط نظام الأسد وبالتحديد (قوات النمر) المدعومة من روسيا، ويقودها العميد سهيل الحسن، في استخدام غاز الكلور على مدينة سراقب في العام 2018". ولفت إلى أن "هذا التقرير وتكرار هذه النتائج دفعا الدول الأعضاء للتصويت على قرار تجميد عضوية النظام السوري باتفاقية المنظمة، ونال القرار تصويت أكثر من نصف الدول الأطراف في الاتفاقية البالغ عددها 193 دولة، لجهة تجميد عضوية النظام".
وأضاف شيخاني أن "بعض المؤسسات الحقوقية رفعت دعاوى قضائية ضد المتورطين في استخدام الأسلحة الكيميائية في عدة دول لديها الصلاحيات للمحاكمة بجرائم دولية، كألمانيا وفرنسا والسويد وغيرها، وقد تلقى مركز التوثيق عدة طلبات من وحدة جرائم الحرب لمشاركة الأدلة المتعلقة بحوادث، أبرزها حادثتا خان شيخون 2017 واللطامنة 2017 وغيرهما من الحوادث التي حققت فيها الفرق الدولية المُختصة بالتحقيق الجنائي وإدانة المتورطين".
وكان النظام أرسل بلاغاً إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الشهر الماضي، أبلغ المنظمة من خلاله بأن العينات التي تم جمعها من حادثة دوما عام 2018 بواسطة فريق تقصي الحقائق قد تم قصفها بواسطة الطيران الإسرائيلي. ورأى شيخاني أن النظام وروسيا معاً يحاولان مسح الأدلة لعدم إثبات تورطهما في هذه الجريمة. أما في ما يتعلق بالمخزون، فإن مركز التوثيق أكد وجود معدات ومواد أولية يتم استيرادها بواسطة شركات الأدوية لتصنيع الأسلحة الكيميائية، التي أصبحت مصدر رعب للسوريين في ظل عدم وجود رادع حقيقي للتخلص منها ومن مصنعيها، بحسب شيخاني.
النظام وروسيا معاً يحاولان مسح الأدلة، لعدم إثبات تورطهما في هذه الجريمة
وعشية الذكرى الثامنة لمجزرة الغوطة، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أمس الجمعة، تقريراً مفصلاً حول الجريمة، لفتت فيه إلى أنه قُتل في ذلك اليوم 1144 شخصاً اختناقاً بينهم 1119 مدنياً بينهم 99 طفلاً و194 سيدة و25 من مقاتلي المعارضة المسلحة (الأرقام طبقاً للضحايا الموثقين بالأسماء لدى الشبكة)، كما أصيب 5935 شخصاً بأعراض تنفسية وحالات اختناق.
وأشار التقرير إلى 222 هجوماً كيميائياً على سورية منذ أول استخدام موثَّق في قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان لاستخدام الأسلحة الكيميائية في 23 يناير/كانون الثاني 2012 حتى 20 أغسطس 2021، كانت قرابة 98 في المائة منها على يد قوات النظام السوري، وقرابة 2 في المائة على يد تنظيم "داعش". واستعرض التقرير توزع هذه الهجمات تبعاً للأعوام وبحسب المحافظات أيضاً.
وطبقاً للتقرير، فإن هجمات النظام تسبَّبت في مقتل 1510 أشخاص يتوزعون إلى 1409 مدنيين بينهم 205 أطفال و260 سيدة و94 من مقاتلي المعارضة المسلحة، و7 أسرى من قوات النظام كانوا في سجون المعارضة المسلحة. كما تسبَّبت في إصابة 11080 شخصاً بينهم 5 أسرى من قوات النظام كانوا في سجون المعارضة المسلحة.
وحمَّل التقرير رئيس النظام السوري بشار الأسد مسؤولية تحريك الأسلحة الكيميائية واستخدامها، فهو الذي يتولى قيادة الجيش والقوات المسلحة، وأكد أنه لا يمكن القيام بمهام أقل من ذلك بكثير من دون علمه وموافقته. وشدّد على أن القانون الدولي الإنساني يأخذ في الاعتبار الطبيعة الهرمية للقوات المسلحة والانضباط الذي يفرضه القادة، ويحمّل القادة المسؤولية الجنائية على المستوى الشخصي لا عن أفعال وتجاوزات ارتكبوها، بل أيضاً عن أفعال ارتكبها مرؤوسوهم. ولفت التقرير إلى أن قاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان تضمُّ بيانات لما لا يقل عن 387 شخصاً، من أبرز ضباط الجيش وأجهزة الأمن والعاملين المدنيين والعسكريين في مراكز البحوث والدراسات العلمية المتخصصة، بتوفير وتجهيز المواد الكيميائية المستخدمة عسكرياً في سورية، المتهمين بإصدار أوامر بشنِّ هجمات بالأسلحة الكيميائية أو تنفيذها في سورية، وأوردَ عينة عن أبرز هؤلاء المتورطين.