تميّزت الأيام الأخيرة في تونس بارتفاع منسوب التوتر السياسي إلى حدّ ينذر بالخطر، على الرغم من النجاحات التي تحققها البلاد في مواجهة فيروس كورونا، وهي ليست هينة أمام ما حدث في دول أخرى ومقارنة بإمكانياتها المحدودة. ولكن هذه الأزمة لم تنجح على ما يبدو في تحسين العلاقات بين الأحزاب، وبين المؤسسات الدستورية، أي الرئاسات الثلاث (الجمهورية والبرلمان والحكومة)، لتزيد دعوات غربية ومجهولة على وسائل التواصل الاجتماعي للفوضى الأمر تعقيداً، بعدما قام أصحاب هذه الدعوات بالتشكيك في المؤسسات الديمقراطية والتحريض على العنف.
ووصف الأمين العام لـ"الاتحاد التونسي للشغل"، نور الدين الطبوبي، الوضع بـ"الواقع السياسي المتشنج الذي يلقي بتداعياته على الوضع الاجتماعي". وأضاف في تصريح، الخميس الماضي، إثر لقائه الرئيس قيس سعيّد، أنّ "الشرعية أو الديمقراطية لا تعني التطاول على رموز الدولة". وأعرب عن رفض الاتحاد لضرب رموز الدولة ومؤسساتها، مؤكداً على "التمسك بضرورة احترام الشرعية ودولة القانون والمؤسسات". كما شدّد على "وجوب أخذ العبرة مما حصل في السابق، والنظر إلى المستقبل بأمل كبير، والعمل على تحقيق انتظارات الشعب وحاجياته".
ويبدو أنّ بعض الأطراف السياسية التونسية لم تعتبر بالفعل مما حدث في السنوات الماضية، عندما قاد منسوب التوتر السياسي إلى درجة عالية من الاحتقان الشعبي، وانعكس على أداء الدولة ومؤسساتها، وعطّل العمل الحكومي، وقاد البلاد إلى أوضاع اقتصادية صعبة لا تزال تدفع ثمنها إلى اليوم.
وتأججت الخلافات أخيراً داخل البرلمان بين الكتل والنواب، وكذلك بين رئيس البرلمان، رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي، ورئيس الجمهورية قيس سعيّد، وأيضاً داخل الائتلاف الحكومي وما بين الأحزاب التي تمثله، إذ بلغت درجة "التلاسن" المباشر في ما بينها حدّ الاتهامات، بما أضفى شعوراً بأنّ الحكومة على وشط السقوط.
ولا يبدو أنّ مساعي التحكّم في هذه التوترات السياسية قد تنتج توافقاً حقيقياً وصامداً، بسبب عمق الاختلافات بين كل هذه الأطراف، إذ يسيطر مناخ انعدام الثقة على العلاقات في ما بينها منذ الانتخابات.
وفي السياق، أشارت مصادر حزبية إلى انعقاد مائدة إفطار بين رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان، الأربعاء الماضي، ومائدة إفطار أخرى بين رئيس الحكومة ورؤساء أحزاب الائتلاف الحكومي أول من أمس الخميس. ولم يتسرب الكثير عن المائدتين، بغاية الحدّ من منسوب التوتر.
ويعمل رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، على دفع الأحزاب المساندة لحكومته للتوقيع على وثيقة تمثّل أرضية مشتركة في ما بينها، بحيث تضمن حداً أدنى من أخلقة العمل المشترك بين هذه الأحزاب؛ حكومياً وبرلمانياً. وتبقى هذه المساعي محدودة جداً، بسبب جوهر الاختلافات بين هذه الأطراف. فبرلمانياً، تأخذ حركة "النهضة" على شركائها وقوفهم موقف المتفرج الشامت في الصراع الذي تخوضه مع رئيسة الحزب "الدستوري الحر"، عبير موسي، التي تعتصم حالياً في البرلمان، للمرة الثانية، وتعطّل أعماله ولا تضيّع لحظة واحدة من دون مهاجمة الغنوشي و"النهضة".
وتنتقد "النهضة" أيضاً مساعي تصفها بالمريبة داخل البرلمان "بغية تشكيل كتلة نيابية جديدة"، مشيرةً إلى أنّ "ذلك من شأنه تغذية الانشقاقات في بعض الكتل النيابية"، في تلميح غير مباشر إلى استقالات من حزب "قلب تونس" قد تكون في اتجاه تكوين كتلة جديدة مساندة لرئيس الحكومة إلياس الفخفاخ. ولذلك حمل بيان للحركة الخميس الماضي، إشارة إلى "ثقتها في أنّ الفخفاخ سيقوم بما يتعيّن للتصدي لتشكيل الكتلة البرلمانية الجديدة". واعتبرت الحركة أنّ هذه المساعي "ليس من شأنها غير تغذية المزيد من الاحتقان السياسي والتمزّق والشتات، بينما البلاد أحوج ما تكون إلى التوافق وجمع الكلمة لتأكيد النجاح في الحرب على وباء كورونا والفقر". وأوضحت "النهضة" أنّ "نجاح الحكومة في حربها ضدّ انتشار الفيروس رهن بنجاحها في بناء علاقات ثقة مع الجميع، والاتجاه إلى توافق حكومي وبرلماني جامع حول برنامج وطني لا يقصي أحداً".
الشق الثاني من الخلافات، أعمق وأخطر، وهو يدور بين سعيّد والغنوشي، حول المكانة السياسية الوطنية للرجلين، وحول المؤسسة الدستورية المحورية في البلاد؛ الرئاسة أم البرلمان. وهو خلاف انطلق منذ الأيام الأولى التي تلت الانتخابات، وانحصر بعد ذلك في مسألة العلاقات الدبلوماسية، إذ ضيّق سعيّد الخناق على الغنوشي وحاصره في كل الملفات، وآخرها الملف الليبي. وعقد رئيس الجمهورية نهاية الشهر الماضي، اجتماعاً خصصه للنظر في الأوضاع في ليبيا. وشارك في هذا الاجتماع، كما ورد في بيان لرئاسة الجمهورية، كل من رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ ووزيرة العدل ثريا الجريبي، ووزير الدفاع عماد الحزقي، ووزير الداخلية هشام المشيشي، ووزير الشؤون الخارجية نورالدين الري، إلى جانب عدد من القيادات الأمنية والعسكرية.
واعتبرت شخصيات من "النهضة" أنّ الاجتماع من حيث جدول أعماله والحضور، هو اجتماع لمجلس الأمن القومي، وهو ما طرح تساؤلات عديدة عن سبب غياب رئيس مجلس النواب وعن الإطار القانوني والدستوري لهذا الاجتماع.
في السياق، رأى المحلل السياسي، ماجد البرهومي، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "ما حصل حمل رسالة للغنوشي بشأن الملف الليبي، فرئاسة الجمهورية تريد دوراً محايداً في هذا الملف، وهذا هو المطلوب في أي صراع". ولفت إلى أنّ "الليبيين سيصلون إلى حلّ آجلاً أم عاجلاً، ومهما طالت الفترة وطال الصراع، سيأتي يوم تنتهي معه الأزمة"، مؤكداً أنّ "التاريخ سيذكر لاحقاً أنّ تونس قد اصطفت مع هذا الطرف أو ذاك، وبالتالي وبحسب السياسة الخارجية لتونس، يجب عدم التدخل مع أي محور، واحترام دول الجوار طالما أن الدول تحترم السيادة الوطنية، وتونس عليها التفكير في مصلحتها في أي صراع يحصل".
واعتبر البرهومي أنّ "بعض الدول تحاول أن تجعل ليبيا ساحة لتصفية الحسابات، وهناك صراعات إقليمية ودولية، وبالتالي هي رسالة إلى ليبيا وإلى الغنوشي مفادها بأننا لسنا مع طرف دون غيره، وأن تونس تلتزم الحياد".
ولكن للخلاف بين سعيّد والغنوشي أوجه أخرى، فسعيّد يرى أنّ كل النظام السياسي القائم يجب أن يتغيّر، وهو لا ينفك عن ترديد ذلك في كل مدينة يذهب إليها، ويهاجم الجميع، البرلمان والحكومة والنخب، بلا استثناء. وكان آخر هجوم له في خطابه بمدينة قبلي، جنوب تونس، قبل أيام، عندما انتقد النقاشات التي تدار في مجلس النواب حول تعديل النظام الداخلي، ومشروع قرار يتعلق بتجريم السياحة الحزبية، وقال إنه "لو كان النائب مسؤولاً أمام ناخبيه، وكان بإمكانهم سحب الثقة منه، لما كانوا في حاجة إلى الخرق الجسيم الذي يجسد مرضاً سياسياً ومرضاً دستورياً، هو ربما أكبر من الجائحة التي انتشرت في أنحاء العالم".
وأشار من جهة أخرى إلى ما يتردّد عن افتقاد الدولة للأموال من أجل الاستجابة لمطالب المواطنين في الصحة والتعليم. وعلق بقوله: "تعلمون جيداً المليارات التي ضُخّت بمناسبة الانتخابات، أين هذه المليارات؟ وأين أموال الشعب التي نُهِبت على مدى عشرات السنين؟". وأضاف: "إن المصالحة التي يتحدّثون عنها ليست مصالحة بينهم، بل يجب أن تكون مع الشعب التونسي وليس مع أطراف تُحدِّد بنفسها من سيتصالح مع من، ومن يُبرِم صفقة مع من".
وجاء الرد من النائب والقيادي في "النهضة"، سيد الفرجاني، في رسالة شديدة اللهجة إلى سعيّد، نشرها على صفحته الرسمية بموقع "فيسبوك" الإثنين الماضي. إذ قال: "السيد رئيس الجمهورية، رجاءً توقف عن تحريضك المتواصل من الجنوب على البرلمان"، مشيراً إلى علاقة أنصاره بالدعوات "إلى الفوضى وسفك الدم". وتابع "لقد تجاوزت مربع صلاحياتك منذ أن أصبح في قصرك من يعمل على تعيين المدراء العامين في الأمن. فلا أدري هل أنتم بصدد تركيز تنظيم مواز للدولة؟". وأضاف: "أنصارك يشحذون السكاكين لإسقاط البرلمان والحكومة. وأنت لا تحرك ساكناً". ولفت الفرجاني إلى أنّ "دولتنا في خطر، وأمننا القومي في خطر، إذا واصلتم هذا النهج الخطير. لستم الفقيه الرسمي للدستور، وأنت خرقت الحجر الصحي وتحرض الشباب وتريد إحلال نظام شعبوي غير دستوري في تونس". وتابع: "سيدي الرئيس لم تعمل بجدية لتشكيل المحكمة الدستورية، لأنّ تشكيلها سيحول بينك وبين تأويل الدستور حسب هواك، فالدستور ليس ألعوبة تؤولها كما تشاء. وإن الفوضى التي يتم التحريض عليها من أنصارك تمثّل تهديداً للأمن القومي التونسي، والحال أنك أقسمت على حماية الدستور، وأنت المسؤول الأول عن مجلس الأمن القومي".