يبدو أن "الجبهة الشعبية" اليسارية التونسية، التي تضمّ نحو 11 حزباً وتجمعاً وبعض المستقلين، قد انهارت أو أنها تسير بنسق سريع نحو التفتت والانهيار الكامل. فالتقارب الاستثنائي الذي حققه شكري بلعيد قبل اغتياله (6 فبراير/شباط 2013) انقلب اليوم إلى معركة مفتوحة بين أهم فصيلين ماركسيين منضويين تحت لواء الجبهة، حزب العمال الشيوعي وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد. بدأ الخلاف في ظاهره عندما قدّم كل حزب مرشحه لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة (نوفمبر/تشرين الثاني المقبل) باسم الجبهة، ورغم أن حظوظ كل واحد منهما تبدو ضعيفة، إلا أن الأزمة في حقيقتها تبدو أعمق من ذلك بكثير. مع العلم أن "الجبهة الشعبية" شكّلت صيغة متقدمة في تاريخ اليسار التونسي. وكان بلعيد يقف وراء هذا الإنجاز. وعلى الرغم من اغتياله، تمكنت الجبهة من الالتحام والصمود، ونجحت في جمع أهم ممثلين عن التيار الماركسي من جهة، وممثلين عن التيار القومي بشقيه البعثي والناصري من جهة ثانية. وتمكنت الجبهة بفضل ذلك التحالف من خوض الانتخابات البرلمانية في سنة 2014، وحصدت 16 مقعداً مما مكنها من تأسيس كتلة نشيطة هي الرابعة داخل مجلس النواب، وأصبحت جزءاً حيوياً ومؤثراً من المعارضة البرلمانية.
عجز اليسار التونسي منذ نشأته عن بناء جبهات سياسية والمحافظة عليها، ذلك لأن تاريخه هو تاريخ الانقسام والتشرذم والصراع على المواقع. أنهكته الخلافات الأيديولوجية، وتضعه حرب الزعامة الدائرة اليوم أمام مستقبل قاتم. والذين راهنوا على الجبهة من التونسيين وظنوا أنها ستخرج اليسار من الدوامة التي عصفت به منذ سبعينات القرن الماضي، يشعرون حالياً بخيبة أمل قاسية، ويدركون أن انهيار مشروع "الجبهة الشعبية" سيدخل اليسار في نفق مظلم وطويل.
يشعر عموم اليساريين بعمق المأزق الذي يمرون به، حتى الأحزاب الصغيرة ذات المرجعية اليسارية التي لم تنضم إلى "الجبهة" أو خرجت عنها، تعيش نفس الحالة وتتخبّط في الأزمة، من دون أن تشعر بكونها ستنتصر في لحظة ما. لقد انتصر اليمين بمعظم تياراته السياسية والفكرية رغم أن لهذا اليمين أزماته ومآزقه، لكنه بقي أكثر التصاقاً بالجمهور، وأشدّ ارتباطاً بحركة الاقتصاد والمجتمع. يعتقد الأمين العام لحزب القطب، رياض بن فضل، الذي لم ينسحب من هذا التحالف رغم تعدّد انتقاداته له، أن "تركيبة الجبهة لم تعد مواكبة للعصر". وكل المؤشرات تدل على أن حالة عموم اليسار لا تعاني فقط من وجود خلل في تركيبتها، أو حتى في غياب الممارسة الديمقراطية داخل هياكلها كما يقول "وطد" وغيره، بل هناك أيضاً مشكلة أكبر وأشدّ تعقيداً تمس بنية التفكير اليساري الذي لا يزال نمطياً، رغم بعض التطور الذي شهده، ومحكوماً بثوابت لم تعد قادرة على تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الجديد، الذي لم يهيمن فقط على دول العالم الثالث، بل فرض نفسه كنمط ساد أو يكاد يسود كل المجتمعات والدول.