ومع صعود حركة "النهضة" إلى رئاسة البرلمان وتبوئها المكانة الأولى فيه وتكليفها بتشكيل الحكومة من جهة، وصعود قيس سعيّد إلى رئاسة الجمهورية بتفويض شعبي واسع من جهة أخرى، في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة في شهري سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول الماضيين، واختلاف الخيارات الواضح خلال الحملات الانتخابية، يخشى التونسيون من تصادم جديد بين الرئاسات الثلاث يؤدي مرة أخرى إلى حالة من الجمود في تحريك الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يأمله التونسيون. وفي خضم الكارثة التي شهدتها تونس منذ أيام حادثة سقوط الحافلة التي أودت بـ29 قتيلاً، وبينما كان الجميع منهمكاً في تفاصيل الفاجعة وأسبابها بدت الصورة السياسية وكأنها تؤشر لتنافس بارد وعن بُعد بين رئيس البلاد قيس سعيّد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي.
فقد آثر سعيّد أن يتوجه إلى مكان الحادث في ولاية باجة، شمالي غرب البلاد، ثم إلى المستشفيات بصحبة رئيس حكومة تصريف الأعمال، يوسف الشاهد، بينما كان الغنوشي وحده يزور المرضى ويعقد اجتماعاً مع نواب الشمال الغربي في البرلمان، وهي صورة انتبه كثيرون إلى أنها معبّرة عن طبيعة العلاقة بين الرجلين، وتعكس بداية صراع تحديد المواقع والنفوذ السياسي بين موقعي الثقل.
ومنذ توليهما دفة المسؤولية، كان سعيّد يكثّف استقبال الوفود الشعبية والشبابية في قصره، مجال العمق الشعبي الذي صعد به إلى السلطة، ويتنقل إلى بعض المواقع المتوترة ويسترسل في الخطاب نفسه الذي عُرف به خلال الحملة الانتخابية، بينما كان الغنوشي يستقبل السفراء تباعاً ويطالب بإشراك تونس في مؤتمر برلين حول ليبيا، ويراقب من بعيد تفاصيل المشاورات الحكومية. وألهبت أرقام استطلاعات الرأي هذا التنافس الصامت من خلال نسبة ثقة شعبية عالية في سعيّد أمام الغنوشي، وسط توقعات بأن تشهد المرحلة المقبلة بداية تحديد مواقع النفوذ بينهما، ستبيّنها أساساً نتائج المشاورات الحكومية ومعرفة ما إذا كانت "النهضة" ستنجح في مساعيها وتتوصل إلى بناء ائتلاف حكومي وبرلماني، أم أن الأمر سيعود إلى سعيّد في نهاية الأمر.
وتشكّل هذه النقطة بالذات محوراً مهماً لتحديد نفوذ الرجلين، فنجاح "النهضة" في تشكيل الحكومة يعني أنها ستتحكّم بشكل كبير في قواعد القرار السياسي، وستحد من نفوذ الرئاسة وتجعلها بالضرورة مرتهنة في قرارها، خصوصاً أمام الصلاحيات التنفيذية المحدودة جداً دستورياً والممنوحة للرئيس. أما إذا فشلت "النهضة" في تشكيل الحكومة وآل الأمر للرئيس في أن يختار الشخصية المناسبة (كما ينص على ذلك الدستور بعد مهلة شهرين انقضت منهما ثلاثة أسابيع حتى الآن)، ونجح في ذلك مع دعم برلماني، فهذا سيقود إلى عزل "النهضة" وتشكيل مشهد سياسي جديد تماماً.
وعن ذلك، قال الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إنّ هناك محاولات من الغنوشي وسعيّد لتوسيع المشاورات، فكل منهما يسعى إلى تحديد المربع الذي يتحرك فيه على الرغم من أن الدستور لا يتضمّن أي تداخل بين السلطة التشريعية والرئاسية، مؤكداً أن الغنوشي يتبوأ ثاني أهم منصب في تونس، أي رئاسة البرلمان، وهو يحاول من خلاله تدارك الاختلال الموجود بعد التصويت الشعبي لسعيّد الذي أكسبه شعبية واسعة، الأمر الذي يعطيه دعماً كبيراً، وبالتالي كأن الغنوشي يحاول أن يخلق توازناً مع سعيّد.
وأوضح الشابي أن الغنوشي ومنذ اللحظة الأولى التي تبوأ فيها رئاسة البرلمان، وحتى قبل أن ينطلق البرلمان في تشكيل الكتل وفي عمل اللجان، كثّف من اللقاءات ومن الاجتماعات ومن استقبال الضيوف الأجانب والمهنئين والسفراء وكأنه يحاول أن يخلق معادلة ويعدل الكفة مع رئيس الجمهورية الذي لا يعتمد على الكتل ولا الأحزاب وإنما على القاعدة الشعبية التي يتواصل معها ويبني معها علاقات عميقة، وهو ما يظهر من خلال أغلب اللقاءات التي جمعته بها.
وأضاف "يمكن أن نفهم أن رئيس حركة النهضة ومن خلال الموقع الذي يريد أن يحصل عليه، يصارع الزمن ليكون في موقع متقدّم ويثبّت موقعه في أعلى هرم، في حال فشل الحبيب الجملي في تشكيل الحكومة وعادت خيوط اللعبة إلى رئيس الجمهورية ليختار شخصية أخرى، فالنهضة تخشى أن تؤول مبادرة تكليف شخصية إلى رئيس الجمهورية ما يعطيه دوراً أكبر من جميع الأطراف وهو ما يقلق حالياً الحركة ويفسر توسيع الغنوشي للتحركات والاجتماعات الحالية".
من جهته، رأى القيادي في التيار الديمقراطي محمد الحامدي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن العلاقة بين الغنوشي وسعيّد "من المفترض أن تكون علاقة تكامل لأن لكل رئيس صلاحياته"، مشدداً على أنه يأمل ألا تكون علاقة تنافر، ومشيراً إلى أنّ التنافس قد يكون موجوداً ولو أنه غير محبذ. وأضاف: "بحسب المؤشرات الحالية فإن العلاقة تبدو حذرة وربما باردة وليست علاقة وثيقة أو تعاون كبير، وهو ما يظهر على الأقل في الوقت الراهن"، مؤكداً أنّ العلاقة كلما كانت سلسلة كانت في صالح البلاد ولا يتم تعطيل الصالح العام. وأشار إلى أن "مجالات التعاون بين البرلمان والرئاسة ليست كثيرة وربما يتم اللقاء في مناقشة ميزانية الرئاسة وفي بعض المبادرات التشريعية وفي عضوية رئيس مجلس النواب في مجلس الأمن القومي حيث يجب أن تكون العلاقة سلسة".
ولكن سعيّد المثقل برهانات شعبية كبيرة لا يملك في الواقع أدوات تنفيذها، ويحتاج إلى حكومة داعمة وإلى برلمان مؤيد لذلك، وهناك إشارات مهمة كشفتها الأسابيع الأخيرة. فحركة الشعب دعت صراحة إلى تشكيل حكومة الرئيس، والتيار الديمقراطي كرّر مراراً أنه لا يثق بحركة النهضة، وحزب تحيا تونس أشار إلى تقارب واضح مع التيار، ورئيسه يوسف الشاهد تقرب كثيراً في الفترة الأخيرة من سعيّد. كل هذه الأطراف تعطّل بشكل أو بآخر مسار تشكيل الحكومة وتميل إلى منح سعيّد دوراً مهماً في المرحلة المقبلة. ما يعني أنها قد تدفع بالكرة إلى ملعب سعيّد لتمنحه زمام المبادرة وتفتكها من "النهضة"، وهو ما تعيه الأخيرة على ما يبدو وقد تلوّح بأوراق جديدة حتى لا يتم عزلها أو إبعادها إلى الصف الثاني من المشهد. وقد ظهر ذلك بوضوح من خلال انتخابات رئاسة البرلمان واتفاق "النهضة" مع "قلب تونس" ونبيل القروي، على الرغم من كلفته الباهظة.
ولا يبدو سعيّد متسرعاً، وهو ينتظر نهاية المفاوضات الحكومية متفرجاً على تطوراتها الجديدة، ومنتظراً ما ستؤول إليه الأمور وما سيستقر عليه المشهد في النهاية، حتى يبدأ ولايته السياسية فعلياً. ولكنه في الانتظار لا يختفي من الصورة ويتحرك من حين إلى آخر لتنبيه الجميع بأنه موجود ولا ينبغي تغييبه من الحركة العامة وأنه صاحب التأييد الشعبي الأكبر، الذي جاء لتغيير الأشياء.