رفضت حركة النهضة التونسية مبادرة الرئيس الباجي قائد السبسي حول المساواة في الإرث. وأكدت الدورة 21 لمجلس شورى الحركة المنعقدة نهاية الأسبوع الماضي، التمسك بنظام المواريث كما ورد في النصوص القطعية في القرآن والسنة، وعبرت عنه مجلة الأحوال الشخصية.
وأكد مجلس الشورى أن مبادرة المساواة في الإرث، فضلاً عن تعارضها مع قطعيات الدين، ونصوص الدستور، ومجلة الأحوال الشخصية، فهي تثير جملة من المخاوف على استقرار الأسرة التونسية ونمط المجتمع.
وقال بيان الحركة إنها تدعم كل مسعى لتطوير المجلة، بما يسهم في ضمان حقوق المرأة، ولا يتعارض مع النصوص القطعية في الدين ونصوص الدستور، مؤكدة التزامها بتطوير حقوق المرأة والرفع من منزلتها في القانون والواقع، والتمسك بقيم العدل والإنصاف.
هذا الموقف للنهضة، غير المفاجئ، يبيّن أن الحركة حسمت أمرها في ما يتعلق بمعادلة الداخل والخارج، حيث فضلت أن تحافظ على قواعدها، الرافضة للمبادرة عموماً، أمام الضغط المسلط على صورتها الدولية.
ويرى مراقبون أن مبادرة السبسي جاءت، سياسياً، لتضع "النهضة" في وضع حرج، وتختبرها أمام الرأي العام الدولي بالأساس، والداخلي أيضاً، وتمحّص حقيقة مدنيتهان وفصلها بين الدعوي والسياسي الذي أعلنته منذ مؤتمرها العاشر، وتكشف حقيقة انتصارها لقضايا المرأة، وهي التي دفعت بأكثر من وجه نسائي في الانتخابات البلدية الأخيرة لتحسين النظرة تجاهها.
صحيفة لوموند الفرنسية، كانت قد أشارت في مقال لها، إلى أن "النهضة"، ذات المرجعية الإسلامية، وصاحبة أكبر كتلة برلمانية، مطالبة بتحمل مسؤوليتها التاريخية، وبأداء دور محوري في دعم المبادرة، وهي مطالبة بإثبات صدقية خطابها، وينبغي أن تكون واضحة بخصوص الحداثة التي تدّعيها.
ولم تخف الصحيفة أن المبادرة التي طرحها السبسي قد تكون مجرد مناورة تكتيكية لعهدة رئاسية فاشلة، ومحاولة لتلميع صورة الرئيس الشخصية، وخدمة لمساره الشخصي.
وفي كل الأحوال، فإن المبادرة تشكل اختباراً للحركة أمام الرأي العام الدولي، وقد يكون رفضها مدعاة لحملة كبيرة، ستشكك في كل ما حاولت صناعته في السنوات الأخيرة بشأن تطورها وحداثتها وحسمها في قضايا مجتمعية كثيرة طُرحت على الساحة التونسية.
وستدفع الحركة بالتأكيد ثمناً لذلك، غير أن الثمن المقابل سيكون أكبر قطعاً، إذ عبّرت قطاعات واسعة من قواعد وقيادات الحركة عن رفضها للمبادرة، وعشية انتخابات رئاسية وتشريعية، لا يمكن أن تجازف الحركة بضرب نسيجها الداخلي وإحداث انقسام بين صفوفها.
وتعتبر قيادات من الحركة، تحدثت مع "العربي الجديد"، أن الورطة قد تتحول إلى أصحاب المبادرة والمدافعين عنها أنفسهم، وستكشفهم أيضاً أمام الراي العام الداخلي اذا أصروا على فرضها في البرلمان، وسيكون لذلك انعكاسات واضحة عليهم في الانتخابات المقبلة، وسيدفعون ثمن ذلك.
وأمام غياب استطلاعات حقيقية بشأن رأي التونسيين بهذا الملف، فإن أحداً لا يمكنه الجزم بشأن انعكاسات المبادرة على صندوق الانتخابات، لأنها ستعيد تشكيل المشهد السياسي قبيل الانتخابات على قاعدة المتحررين والمحافظين، وهو ما كان حصل في انتخابات 2014 بالضبط، غير أن المتغيرات كثيرة منذ ذلك التاريخ وربما ستتشكل صور أخرى للتحالفات قبيل 2019.
لكن بيان "النهضة" لم يتوقف عند هذا الملف فقط، فقد حرصت الحركة على مغازلة السبسي من جديد، بالإصرار على "خيار التوافق لتجاوز كل صعوبات هذه المرحلة وتأكيدها على ضرورة العمل المشترك مع القوى الوطنية السياسية والاجتماعية لتجاوز الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد منذ تعليق العمل باتفاقية قرطاج 2".
ويُعتقد أن "النهضة" قدمت له "هدية" مهمة بالتأكيد على "حاجة البلاد إلى حكومة مستقرة ومنصرفة كلياً إلى تجسيم الإصلاحات والتصدي للتحديات وتهيئة البلاد لانتخابات 2019 بدون أن يكون أعضاؤها معنيين بالترشح وذلك ضمانا لنجاحها في مهامها". وهو ما يعني أن "النهضة" مستعدة لتغيير رأيها بخصوص بقاء الشاهد، وتدفعه تقريباً إلى المغادرة بربط بقائه بعدم الترشح للانتخابات المقبلة، إلا إذا قبل بذلك وراوغ الجميع الذين يتوقعون أنه يعمل منذ مدة على ضمان حظوظه في هذا الاستحقاق الانتخابي، ودعم وجوده في المشهد السياسي بكتلة برلمانية مهمة، أعلنت الاثنين عن وجودها بـ34 نائباً تحت مسمى كتلة الائتلاف الوطني.
بيان "النهضة" أعاد طرح ملف العدالة الانتقالية مجدداً على الطاولة، إذ طالب هيئة الحقيقة والكرامة بضرورة التسريع في إنهاء البتّ في ملفات ضحايا الاستبداد، لاسيما أن حالة الكثير منهم تسوء يوماً بعد يوم بدون تحقيق أي تقدم، كما فقدت البلاد بعضهم تباعاً بسبب التهميش والإهمال الصحي بدون حصولهم على أبسط الحقوق.
والمعلوم أن ملف العدالة الانتقالية أثار خلافات سياسية كبيرة بين الأحزاب الكبرى، وكان مرّات كثيرة وسيلة مقايضة وابتزاز سياسي بينها، ولعل "النهضة" أرادت بهذه الإشارة أن تذكر خصومها بأنها دفعت ثمناً كبيراً نتيجة تنازلاتها المتعددة في هذا الملف وأنها مستعدة لإثارته من جديد.
ويتساءل المتابعون إذا ما كانت حركة النهضة قد نجحت في الخروج من ورطة المبادرة أم أنها توغلت أكثر في وحلها، مع أن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي كان قد أشار في رسالته المفتوحة إلى السبسي إلى أنه مستعد لبحث صيغة جديدة للمبادرة، وهو ما يترك الباب مفتوحاً بين الشيخين، وإن كان بمقدار صغير، لكن يبقى كل شيء ممكنا بين هذين الرجلين اللذين مرّا باختبارات أصعب وتمكنا في نهاية الأمر من إيجاد أرضية مشتركة وقاعدة اتفاق دنيا.