أحمد الفليطي... فاوض حتى الرمق الأخير

23 يوليو 2017
علامات استفهام حول قاتله (فيسبوك)
+ الخط -

لم تكن رحلة نائب رئيس بلدية عرسال السابق، أحمد الفليطي، بعد ظهر أمس السبت، إلى جرود بلدته، للتفاوض مع قادة تنظيم "جبهة فتح الشام" (النصرة سابقاً)، هي الأولى​؛ فالأحداث السورية، ولجوء عشرات آلاف السوريين من بلدات القلمون وريف حمص وريف دمشق إلى بلدة عرسال، على حدود لبنان الشرقية مع سورية؛ نقلت الفليطي من "السوبر ماركت" الذي يملكه في قلب البلدة إلى الجرود عشرات المرات خلال العامين الماضيين.

ولم يكن الفليطي، الذي ترشح للانتخابات البلدية عام 2010، يتوقع أن تتجاوز مهامه حدود متابعة ملفات الحرمان الكثيرة التي تعاني منها بلدته على مُختلف الأصعدة، ولكنه تحوّل إلى أحد الوجوه البارزة في ملف إغاثة اللاجئين السوريين الذين توالى توافدهم إلى البلدة منذ بداية الثورة السورية هرباً من بطش قوات النظام، نظراً لقرب بلدة عرسال من منطقة القلمون.

وتحوّل "السوبر ماركت" الذي يملكه الفليطي إلى مأوى مؤقت للاجئين، إلى حين تأمين مسكن لهم؛ إنْ في المخيمات التي بُنيت بشكل عشوائي في بداية اللجوء، أو في منازل أهالي عرسال الذين هالتهم أخبار المجازر التي ترتكبها قوات النظام بحق المدنيين.

وكثيراً ما انتقلت عائلات اللاجئين إلى منزل الفليطي للإقامة فيه لأيام، بانتظار تأمين مسكن دائم لهم. كما برز الفليطي كمُتحدث رصين فضّلت العديد من وسائل الإعلام المحلية والدولية التحدث معه، وأخذ المعلومات الدقيقة عن واقع البلدة التي شهدت محاولات عديدة لتصويرها على أنها مأوى للمُتطرفين. وأنقذ الفليطي مجموعة صحافيين من التعرض للخطف أو القتل خلال جولة لها في جرود البلدة قبل أعوام، عندما اعترضها مسلحون من "فتح الشام".



ومع تطوّر الأوضاع الميدانية في جرود البلدة، وانتشار مسلحين من مُختلف التنظيمات الإسلامية المُتطرفة فيها، كـ"فتح الشام" و"داعش"، انتقل الفليطي من العمل الإغاثي والاجتماعي الصرف إلى ميدان العمل السياسي والتفاوضي، في محاولة منه لاحتواء الموقف وحماية المدنيين في عرسال. وشهدت الجرود زيارات مُتكررة للفليطي برفقة آخرين للقاء قادة التنظيمات، لبحث ملفات كثيرة استجدّت نتيجة خطف بعض أبناء عرسال من قبل "فتح الشام" و"داعش" بتهمة التعاون إما مع النظامين السوري واللبناني أو مع "حزب الله"، كما سهّل الفليطي إيصال المساعدات إلى المدنيين المقيمين في الجرود خارح نطاق انتشار الجيش اللبناني.

وتميزت وساطة الفليطي بأنها كانت تعود بنتائج إيجابية على بلدة عرسال التي بقيت الأوضاع فيها مستقرة، إلى أن اجتاح عناصر التنظيمين البلدة في أغسطس/آب عام 2014، بعد توقيف قائد أحد الفصائل المبايعة لـ"داعش" أثناء محاولته الدخول إلى البلدة.

ورغم انتهاء المعركة بعد أيام وانسحاب التنظيمين من البلدة، فإن خطف 36 عسكريّاً لبنانيّاً أعاد الفليطي إلى الجرود، في وساطة جديدة وبتكليف رسمي لإعادة العسكريين.

تنوعت اتصالات الفليطي وخطوط تواصله بين قيادات التنظيمين في الجرود، وكان من الوسطاء القلة الذين نجحوا في لقاء قادة "داعش" لفتح بوابة تواصل، بهدف إطلاق 9 عسكريين مخطوفين لديه.

ولم تقتصر لقاءات الفليطي بقيادات "داعش" على جرود بلدة عرسال فقط، بل أوصلته جهود التفاوض إلى تركيا، حيث التقى بقادة من "داعش" لبحث شروط التفاوض والبنود. وفي الوقت ذاته، كان تنسيقه قائماً مع وزير الصحة السابق، وائل أبو فاعور، الذي كلفته الحكومة اللبنانية السابقة، برئاسة تمام سلام، متابعة ملف التفاوض؛ ومع الوسطاء القطريين الذين زاروا جرود عرسال برفقته، ونجحوا معاً في إطلاق سراح 16 عسكرياً، بعد إنجاز المفاوضات عام 2015.

أبعدت نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، التي تمت عام 2016 في لبنان، الفليطي عن دائرة الضوء، بعد انتهاء ولاية المجلس البلدي الذي تولى نيابة الرئاسة فيه، ولكنه بقي في دائرة العمل على إطلاق سراح العسكريين اللبنانيين.

وبعد تعثّر المفاوضات بسبب عدم وضوح تنظيم "داعش" في مطالبه وتغييرها بشكل مُتكرر، تحوّل الفليطي إلى هدف للتنظيم الذي وجّه إليه تهديدات مباشرة بالقتل، اضطر على إثرها إلى أن يغادر مطلع العام الحالي.

توجّه الفليطي، عقب ذلك، إلى العاصمة العراقية بغداد، إذ استأنف أعماله التجارية هناك ولاحقه الخطر. ​نجا "الزعيم"، كما كان يُلقب، من تفجيرات وقعت في الشارع الخلفي لشقته في بغداد، فقرر العودة إلى عرسال.

غاب الرجل ولم تغب دائرة اتصالاته الجيدة مع مُختلف الأطراف المعنية، سياسيّاً وعسكريّاً، بالوضع السوري؛ فكان من عداد الأعضاء اللبنانيين في وفد التفاوض الذي زار أمير "فتح الشام" في منطقة القلمون، أبو مالك التلي، لمفاوضته على
مغادرة الجرود اللبنانية والسورية؛ مقابل عودة اللاجئين في عرسال إلى بلداتهم في القلمون، وهو العرض الاستباقي الذي قدّمه "حزب الله" للمسلحين في الجرود بعد تواتر الحديث عن نية الولايات المتحدة إعلان مجموعة مناطق آمنة في سورية، ومن ضمنها منطقة القلمون.

شكلت هذه الوساطة آخر محاولات الفليطي تقليص الخسائر التي عانت وتعاني منها عرسال، وتجنيبها أي معارك أخرى تدور فيها. وكانت زيارته، بعد ظهر السبت، إلى الجرود، آخر عهده التفاوضي، مع استهداف السيارة التي تقلّه بصاروخ موجّه في منطقة وادي حميد الواقعة على أطراف بلدة عرسال، ليُعلن عن وفاته بعدها بوقت قصير نتيجة مضاعفات إصابته التي أدت، بداية، إلى بتر قدمه اليمنى.

ورغم تأكيد عدد من أفراد أسرته، وعدد من المصادر المحلية في البلدة، أن "فتح الشام" هي التي استهدفت السيارة "غدراً"، فإن عملية الاستهداف تزامنت مع إعلان "حزب الله" عن قصف سيارة في المنطقة نفسها والتوقيت نفسه، وهو الأمر الذي يطرح علامات استفهام عن قاتل الفليطي، ومعه مسار التفاوض.