لعل تعبير "طفح كيل الترقيع" هو الأكثر واقعية وتعبيراً عن استعصاء حالة سورية. فانفصال نظامها عن الواقع، في عالم افتراضي - رغبوي، ينتج الواقع المأساوي، بمتناقضات عيشه القيصرية وإيصال بلده إلى تحت خط الفقر، وبإمعان سلب إرادة وكرامة الشعب.
الأمر لا يتعلق بالمعيشة والمال فحسب، بل بكسر تحويل النموذج السوري إلى درس قاس، في سياق الانقلاب على ثورات الربيع العربي، وتوهّم حتمية أن الشعوب سترضخ وتستسلم للاستبداد.
بالنسبة لنخب وممولي ومحرّكي "الثورات المضادة"، على امتداد رقعها الجغرافية العربية، فإن ما يجري في السويداء وحوران، وانتشار الجرأة على نظام بشار الأسد عموماً، وبروز جيل شاب لم يعش بوعي الثورات العربية، يعزز هواجسهم من بداية فشل مشاريع وأد الحرية والعدالة. وربما مثلهم تشعر بعض القوى الغربية التي تفضّل حكم الاستبداد في المنطقة.
الآن، ولمواجهة منسوب الجرأة في جنوبي سورية، وتحطم صنمية تأليه الحاكم، تُطلَق الحملات: خونة، عملاء، مؤامرة... وعبارات حمقاء في طائفيتها، بحق مكوّن مشارك في صناعة تاريخ سورية الحديث.
تلك الاتهامات تذكّر بما ساقوه بعد ربيع 2011 لتبرير دموية المشهد التالي، حصاراً وتجويعاً وإبادة وتهجيراً، لتعود مرة أخرى بكثير من التزييف والتضليل، بل الأخطر بلغة تحريض لشق المجتمع، خلف تخندقات مذهبية وطائفية.
مع ذلك، وبغض النظر عن مآلات ما يجري، فإن أي عاقل يدرك أن لا مستقبل لسورية ببقاء هذا النظام. عليه، رفع المتظاهرون في السويداء بوعي سقف مطالبهم، داعين إلى تطبيق أقل ما يمكن للقرار الأممي 2254، والوحيد المطالب بانتقال سياسي.
ويؤشر ذلك ببساطة إلى أنه رغم تشريد 14 مليون سوري، وانتهاج سياسات التغيير الديمغرافي لخلق "سورية مفيدة ومدجنة"، ما زالت الحرية والكرامة أساساً لناس المستقبل، وإن بموجات مد وجزر على مدار 12 سنة مضت وفقاً للظروف الصعبة.
وبالطبع استدعاء النظام وحلفائه لـ"داعش"، في أعمال "تحت الطلب"، وافتعال "فتنة" بين مكونات المجتمع السوري، ليست بعيدة عن وعي الجيل الجديد في الشوارع، ولا عن أولئك الذين يكتشفون فداحة نتائج تزوير الوعي والوقائع، بعد ثورة 2011.
أخيراً، وبدل فوضى السقوط الحر لسورية نحو قاع الدول الفاشلة، فإن شعبها قادر على تقديم البدائل عن هذا الحكم الوراثي المتآكل. فمشاهد تنظيم الاحتجاجات وتنظيف الشوارع بعد الفعاليات في السويداء، وقبلها ما فعله غياث مطر في داريا قبل قتله، تقدّم درساً حول حياة الشعب بعيداً عن آلة القمع والاستبداد الراعي للفساد.