تعتبر عملية طوفان الأقصى من أكثر العمليات تأثيرًا في الاتجاهات كافّة على مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا سيّما تداعياتها على مستقبل الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية.
أوّلاً: تداعيات ونتائج طوفان الأقصى على مستقبل الاحتلال الإسرائيلي
ستلقي عملية طوفان الأقصى بتداعياتٍ ونتائج على مستقبل الاحتلال الإسرائيلي على النحو التالي:
1. صورة إسرائيل أمام العالم: إن ما ارتكبته إسرائيل من جرائم إبادةٍ جماعيةٍ لأكثر من 12 ألف فلسطينيٍ نصفهم من الأطفال، وسياسة عقابٍ جماعيٍ، عبر حرمان جميع سكان قطاع غزّة من المياه، والكهرباء، والغذاء، والوقود، وما قامت به من جريمة التهجير القسري، عبر دفع المواطنين لترك منازلهم قسرًا، وما استخدمته من أسلحةٍ محرمةٍ دوليًا، مثل الفوسفور الأبيض، وقصفها مقار الأمم المتّحدة، وقتلها المتعمّد لأكثر من مائة موظفٍ من موظفيها، واستباحة المستشفيات، كلّ ذلك وغيره سيلقي بتداعياته على صورة إسرائيل أمام الرأي العامّ في شتى أنحاء المعمورة، وهو ما سيدفع المجتمعات الغربية لتحوّلاتٍ تدريجيةٍ في إعادة رسم خارطة المشهد السياسي من جديدٍ، لا سيّما لدى جيل الشباب، ضمن حرب الرواية والسردية، التي باتت نتائجها ملموسةً من الناحية الرقمية، وهو ما يشير إليه استطلاع الرأي العامّ الذي أجرته نيويورك تايمز في الآونة الأخيرة، الذي يصب في اتجاه رفضٍ واضحٍ لسياسة الولايات المتّحدة الخارجية تجاه الحرب على قطاع غزّة، وتراجع التصويت للرئيس الأميركي جو بايدن بين الجاليات العربية والمسلمة داخل الولايات المتّحدة، حسب المعهد العربي الأميركي من 59% خلال الانتخابات السابقة، إلى 17% لو جرت الانتخابات خلال هذه الفترة الزمنية، وما حصل من تصويتٍ ضدّ عضو مجلس النواب الأميركي رشيدة طليب، حيث من أيد رؤية رشيدة بأن فلسطين حرة من البحر إلى النهر ما يقارب من 180 عضوٍا، هذا مؤشّرٌ واضحٌ على حجم التحوّل، والذي يحتاج إلى مزيدٍ من الفعل المنظم للجاليات، ومؤسسات المجتمع المدني لضمان استمرارية التظاهرات المؤيدة لفلسطين.
ستزداد شعبية المقاومة، وفكر المقاومة داخليًا وخارجيًا، ولكن هذا مرتبطٌ بمسار النتائج السياسية للمعركة
كلّ ما سبق؛ سيجعل من إسرائيل عبئًا على الدول الغربية، وهو ما يعني تقليص الدعم المادي، والسياسي لو أحسن مناصرو القضية الفلسطينية شعوبًا ودولاً ومؤسساتٍ العمل على تعزيز هذا الهدف، بالسبل والوسائل المشروعة كافّةٍ.
2. صورة إسرائيل أمام مجتمعها: قد يكون الجزء الأكبر في إسرائيل يشعر بنشوة الانتقام والثأر مما جرى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول؛ من عملية طوفان الأقصى، على المدى القصير، لكن سيبدأ على المدى الأبعد النقاش داخل إسرائيل حول المسؤول عن الاخفاق، ضمن جدلٍ إعلاميٍ سيترك أثره على ميزان المناعة القومي في إسرائيل، وهو ميزانٌ لرصد العلاقة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع. قبل طوفان الأقصى تراجع ميزان المناعة القومي، وثمة اختلالٌ في العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويبقى السؤال الآن: هل تداعيات طوفان الأقصى؛ التي كسرت هيبة المؤسسة العسكرية، ستزيد من الفجوة، أم أن ما قامت به آلة الدمار الإسرائيلية سيرمّم ذلك؟ في تقدير الكاتب إنّ الاحتمال الأكثر ترجيحًا هو الأوّل، أي ستتراجع العلاقة بين المجتمع والدولة، انطلاقًا من سيناريو الجدل بعد الحرب، حول مسؤولية الفشل، وهو ما يكشف كواليس واقع المؤسسة العسكرية، وبذلك سيزيد من الفجوة والاختلال لميزان المناعة القومي، وهو ما يعني استراتيجيًا زيادة الهجرة العكسية من إسرائيل إلى الخارج، لا سيّما هجرة رؤوس الأموال.
وفقًا لما سبق؛ فإنّ تداعيات طوفان الأقصى ونتائجه على مستقبل إسرائيل ستدفع إسرائيل إلى تبنّي أحد المسارين التاليين: الأوّل؛ تحسين صورتها وتموضعها في العالم، وهذا يتطلّب قبول إسرائيل بالمقاربة السياسية القائمة على حلّ الدولتين، وإعادة قطار التطبيع للدوران. الثاني: المضي في لغة القوّة، والغطرسة، والقتل، وهذا من شأنه أن يأخذ إسرائيل نحو المجهول، على المستويات كافّةً.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ السير في المسار الأوّل يتطلّب زيادة وتيرة الحراكات الخارجية، وحرب الرواية والسردية، التي تعزز الرواية الفلسطينية، يضاف إليها حجم الحراك السياسي والقانوني لمقاضاة إسرائيل وفضحها، وأداء الميدان المتمثّل في المقاومة، وصمود شعبنا.
ثانيًا: تداعيات ونتائج طوفان الأقصى على مستقبل فصائل المقاومة
من الوهلة الأولى لتتبّع مسار العمليات، يأخذك التفكير نحو اتجاهين:
الأوّل: قوّة المقاوم الفلسطيني وشراسته وابداعه وقدرته؛ رغم عدم تكافؤ القوّة بالمقارنة بدولة الاحتلال الصهيوني، والدعم اللا محدود من الغرب الأطلسي، على تكبيد الاحتلال الإسرائيلي خسائر كبيرةً، خلال عملية طوفان الأقصى وما بعدها، مقابل موقف حلفاء المقاومة، والمجتمع الدولي من المجازر، وجرائم الإبادة الجماعية.
الثاني: حجم الدمار الذي لحق بالبنى المؤسسية الحكومية، والحركية، والعسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية، وقدرتها على الترميم في ظلّ فقه الأولويّات مع حجم الدمار، الذي لحق بالبنى التحتية، ومساكن المواطنين وممتلكاتهم.
الاتجاه الأوّل: المقاومة وحلفاؤها والمجتمع الدولي
أحد أهمّ نتائج الحرب وتداعياتها على غزّة أنّها كشفت كذبة أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأصبح بالإمكان هزيمته، إذا تضافرت كلّ الجهود، وتوحدت الأهداف، والرؤى الفلسطينية، والعربية، والإسلامية، وتَشكَّل تكتلٍ مناهضٍ للغرب الأطلسي، إذ تصبح فكرة تقويض المشروع الصهيوني ممكنة التحقق. أما تدجين إسرائيل، ودفعها باتجاه القبول والإذعان بالحقوق الفلسطينية، وبقرارات الشرعية الدولية، القائمة على تطبيق حلّ الدولتين، من قبل المجتمع الدولي، ففرص تحقيقه عاليةٌ جدًا.
أما حلفاء المقاومة؛ قد يكون من المبكر محاكمة مواقفهم حتّى انتهاء الحرب، إلّا أنّ مخاطر عدم تطبيق مبدأ وحدة الساحات بزخمٍ يتناسب وحجم الجريمة المرتكبة في فلسطين، ستكون كبيرةً على مستقبل تماسك المحور ومواقفه، في حال؛ لا سمح الله، سقطت المقاومة في قطاع غزّة، أو تلقت ضربةً كبيرةً في بنيتها البشرية، والعسكرية.
أما تداعيات الحرب على المجتمع الدولي والإقليمي، في تقدير الكاتب أنّها قد أحيت، لدى المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية من نظمٍ سياسيةٍ، وشعوبٍ، ومؤسسات المجتمع المدني، فكرة المقاومة، والتحرر الوطني، وحققت فصائل المقاومة انتصارًا كبيرًا في تكوين وعيٍ جمعيٍ محب لها، ومقدرٍ لجهودها، ومناصرٍ وداعمٍ لها. في حين ألقت الحرب بتداعياتٍ على أنصار الفريق المعادي للمقاومة ومناصريها، بضرورة زيادة دعم إسرائيل، والحفاظ على مستقبلها وبقائها، وهذا الفريق سيجد أنّ لإعادة إسرائيل لمكانتها السابقة في المنطقة لا بدّ من مسارٍ سياسيٍ قائمٍ على حلّ الدولتين، حتّى تستطيع إعادة ترميم صورة إسرائيل أمام الرأي العامّ الغربي.
سيجعل من إسرائيل عبئًا على الدول الغربية، وهو ما يعني تقليص الدعم المادي، والسياسي
الاتجاه الثاني: أثر الحرب على بنية المقاومة
استراتيجية إسرائيل في هذه الحرب قائمةٌ على تأليب حاضنة المقاومة الشعبية، عبر قصف المؤسسات والمرافق المدنية، والبنية التحتية، وضرب حاضنة المقاومة الرسمية، وهي الجسم الحكومي في قطاع غزّة، عبر تدمير أغلب المؤسسات الحكومية، وتوجيه ضرباتٍ مباشرةٍ لحاملي السلاح، عبر استهدافهم، أو غير مباشرةٍ عبر استهداف نسائهم، وأطفالهم، وآبائهم، وأمهاتهم، وأشقائهم. وضرب البنى العسكرية من مواقع تدريبٍ، وأنفاقٍ، ومنصات صواريخ.
رغم بشاعة هذه الاستراتيجية، التي تتنافى مع القانون الدولي الإنساني، إلّا أنّ المقاومة لا خيار لها سوى القتال، وهذا ما يحصل فعلًا في شوارع غزّة، إلّا أنّ تداعيات الحرب على بنى المقاومة العسكرية ستكون حاضرةً، ولا يستطيع أحدٌ تحديد نسبتها سوى المقاومة نفسها، التي ستقوم بتقييمٍ ذاتيٍ بعد الحرب.إنّ تحديد مستقبل المقاومة الفلسطينية بعد هذه الحرب يتحدّد وفقًا لنتيجة المعركة، حتّى إن نجحت إسرائيل بالتدمير، لكنها لم تنتصر بالمعركة، وهذا ينطلق من فرضية أنّ طوفان الأقصى، يوم السابع من أكتوبر، هو نتيجة المعركة، بينما الحرب هي المقدّمات، والمعارك بنتائجها. وعليه ووفقًا لهذه النتيجة؛ ستزداد شعبية المقاومة، وفكر المقاومة داخليًا وخارجيًا، ولكن هذا مرتبطٌ بمسار النتائج السياسية للمعركة، فإن حققت حلّ الدولتين فهذا انتصارٌ، كذلك إن ساهمت في الإفراج عن آلاف المعتقلين الفلسطينيين فهذا انتصارٌ، أو إن ساهمت في تصدير صورة إسرائيل اللاأخلاقية فهذا من شأنه التأثير على مصداقية رواية إسرائيل، وعلى تشكيل رأيٍ عامٍّ ضاغطٍ لتقييد دعم دولة الاحتلال الصهيوني واسنادها.
الخلاصة: نحن الشعب العربي الفلسطيني، احتلّت أرضنا عام 1948م، بتآمرٍ بريطانيٍ وتواطؤٍ غربيٍ، وأقيم كيانٌ اسمه إسرائيل على أنقاض أراضينا، اعترف به المجتمع الدولي بشرط قبوله لقراري 181 – 194، ولم تلتزم إسرائيل بهما؛ الأصل هنا أن يسحب الاعتراف الدولي بهذا الكيان المزعوم، ووفقًا لقرار الجمعية العامّة في عام 1970، فإنّ مقاومة الاحتلال مشروعةٌ، وعليه ما يقوم به شعبنا من مقاومةٍ بالأشكال كافّة هي مشروعةٌ بالقانون الدولي، والأصل بالعلاقة مع هذا الاحتلال هو الاشتباك، وهذا ما يحصل بالضبط، حتّى لو نفذت ذخيرة المقاومة فإن العودة للحجر، أو الحرب الديموغرافية، أو أيّ خيارٍ آخرٍ سيكون سمة المرحلة المقبلة، وهذا كلّه منطلقٌ من أنّ المقاومة التي تتبنّاها حماس وغيرها هي فكرةٌ، والفكرة لا يمكن أن تموت.