أثارت تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيّد حول خروج 1.8 مليون تونسي إلى الشوارع في مسيرات داعمة له، الأحد الماضي، استغراباً وسخرية من تضخيم وتهويل عدد الأنصار والمساندين سعياً للاستحواذ على شرعية الشارع، قبل أن تعمد الرئاسة إلى سحب الفيديو الذي يتحدث فيه سعيّد عن الموضوع، وسط تبريرات غير رسمية عن وجود مقربين من الرئيس نقلوا له هذا الرقم الخاطئ. إلا أن هذه التبريرات في حد ذاتها تطرح علامات استفهام عدة حول مصادر معلومات سعيّد من جهة، وقدرته على تصديق مثل هذه الأرقام وتبنيها على الرغم من المبالغات التي تشوبها.
وقال سعيّد، أمس الاثنين، إن 1.8 مليون تونسي خرجوا إلى الشوارع في مسيرات داعمة له، مشيراً، خلال لقائه رئيسة الوزراء المكلفة نجلاء بودن، إلى أنه "كان يوماً تاريخياً". في مقابل ذلك، اختلفت وسائل إعلام محلية وأخرى أجنبية في تقدير عدد المتظاهرين، بين من ذكر أن عددهم بلغ 8 آلاف (رويترز)، وأخرى أشارت إلى أن العدد لم يتجاوز 3 آلاف وسط العاصمة (وسائل إعلام فرنسية).
يبلغ عدد سكان محافظة تونس العاصمة نحو 1.074 مليون
وأثار الرقم المعلن من الرئيس موجة استغراب واسعة حول إمكانية استيعاب الشارع الرئيسي، الذي جرت فيه وقفة الأحد الماضي، عدداً بهذا الحجم، في حين أن عدد سكان محافظة تونس العاصمة بأكملها، يبلغ نحو 1.074 مليون، بحسب آخر الإحصاءات الرسمية لمعهد الإحصاء الحكومي لعام 2019.
وقال المحلل السياسي الحبيب بوعجيلة، في تعليق لـ"العربي الجديد": "لا يمكن في الوضع الديمقراطي للدولة الحديثة والمدنية أن نقيس توجهات المواطنين إلا عبر صناديق الاقتراع، وعندما نخرج من هذا السياق ندخل سياق القرارات الاستثنائية وقرارات الفرد الحاكم الذي يلغي كل الوسائط بينه وبين الشعب، بينما لا مكان له في الديمقراطيات التي تتحدث عن المواطنين والأصوات الانتخابية، والمشاركة في الشأن العام عبر الأحزاب والجمعيات المدنية والانتخابات". وبيّن أن "الصراع يدور حول المشروعية الشعبية، باعتبارها مشروعية غامضة، ولا يستطيع كل طرف أن يحدد ما يريد، استناداً إلى حجم ما يتمتع به من مشروعية شعبية لا يمكن قياسها. فالجميع يقول إن الشعب معي مهما كان عدد المساندين، سواء 5 آلاف أو 100 ألف". وأكد أنه "في الديمقراطيات، حتى لو خرج مليون شخص يعبرون عن موقف، فإن هذا الأمر لا يعتد به، بل يعتد بصناديق الاقتراع".
وأشار بوعجيلة إلى أنه "في الوضع الاستثنائي يتم اعتماد الحشود لفرض القرارات، خاصة إذا كانت لمساندة الحاكم الذي يريد أن يفرض قراراته الفردية التي لا يمكن تبريرها إلا عبر الحشود، ليتحول بذلك لدولة الاستبداد وليس المواطنة والديمقراطية، التي تفرض مرور قرارات الحاكم عبر المؤسسات المنتخبة".
وحول تهويل الأرقام ومصادر معلومة الرئيس، قال بوعجيلة: "ليست المرة الأولى التي يخطئ فيها الرئيس في علاقة بالأرقام التي يعلنها، سواء كانت مالية أو حول جماهير شعبية. أخطأ عندما تكلم عن الأموال المصادرة والمنهوبة، وعن ميزانية الدولة، وهو لم يكن دقيقاً دائماً في أخباره". وقال: "إما أن هناك مشكلة للرئيس مع الأرقام، وإما مصادره غير رسمية"، مشيراً إلى أن "رئاسة الجمهورية حذفت هذه الفيديوهات والجمل المتعلقة بالأرقام". ولفت إلى أن "هناك تقارير رسمية تصله، ولكنه لا يعترف بالأرقام الرسمية، بل لديه أرقام يأخذها من أنصاره، لأنه يعتبر أن أنصاره هم المعبرون الحقيقيون عن الحقيقة الشعبية على الأرض".
واعتبر النائب عن التيار الديمقراطي، هشام العجبوني، أنّ تكرّر أخطاء سعيّد بتقديمه أرقاماً ومعطيات مغلوطة يمسّ بمصداقيته. وشكك، في تدوينة على حسابه على "فيسبوك"، في هذه الإحصائيات، معتبراً أنّ "المحيطين بقيس سعيّد ورّطوا الرئيس من خلال مدّه بمعطيات وأرقام خاطئة". ونصح رئيس الدولة، بطرد كلّ من ورّطه للتصريح بمعطيات وأرقام مغلوطة. وكتب: ''لو كنت مكان رئيس الجمهورية لطردت كل من ورّطني في التصريح بأرقام ومعطيات مغلوطة، وطردت كل الفريق المكلّف بالإعلام الذي سمح بتمريرها في المونتاج". كما انتقد العجبوني التعليق الذي جاء على لسان رئيسة الحكومة الجديدة، بقوله إن ''المصيبة أن رئيسة الحكومة (مهندسة ودرست الرياضيات والمنطق) قد علّقت بـ"ما شاء الله" على المليون و800 ألف متظاهر".
وفسر خبير الإحصاء، معز الهمامي، كيفية معرفة عدد المتظاهرين، قائلاً: "عادة ما نحتسب وفق قاعدة متظاهر على كل متر مربع، ضرب المساحة المعبئة لموقع التظاهرة." وأضاف في منشور على "فيسبوك": "في تظاهرة فنية (ثقافية) يكون 3 أشخاص في المتر المربع، أما في حافلة مليئة يمكن احتساب 5 أشخاص في المتر المربع. يعني على أقصى تقدير فإن المتر المربع يمكن أن يتسع إلى 6 أشخاص". وأوضح أنه "إذا تظاهر 1.8 مليون شخص فإن هذا يحتاج إلى 300 ألف متر مربع". وأضاف: "انطلاقاً من احتساب كامل طول شارع الحبيب بورقيبة (من آخر ساحة محطة المترو بتونس البحرية وحتى ساحة ابن خلدون) الذي يبلغ 1.5 كيلومتر، وعرضه 60 متراً، فإنه لن يستوعب، حتى لو كان مزدحماً من البداية إلى النهاية، سوى 540 ألف متظاهر".
وأججت تصريحات الرئيس الخلاف حول امتلاك الشارع وصراع الشرعية الشعبية التي قسمت التونسيين بين مساندين لقرارات سعيّد ومعارضين له. وفي السياق، قال النائب سفيان مخلوفي إن "النظرة الأولى الخاطفة تقول إن قيس سعيّد أخطأ عندما قال رقم 1.8 مليون متظاهر… الأهم هو لماذا يستعمل الرئيس رقماً خيالياً لا يسنده أي منطق؟". وأضاف: "يبدو أن الرئيس يبحث عن "مشروعية" كما يسميها من خارج الشرعية الدستورية، وهو مستعد لأي تبرير لذلك عوض البحث عن مخرج من داخل تلك الشرعية". واعتبر أن "تركيزه على تظاهرة 3 أكتوبر/تشرين الأول (الحالي) يوحي بأنها أعدت بتنسيق مع مؤسسة الرئاسة لغاية تأكيد تلك "المشروعية" وتجاوز الشرعية".
وعلق المحلل والإعلامي، هيثم المكي، على صفحته في "فيسبوك" ساخراً: "عندما قلت لكم إن الرئيس يستقي معلوماته من فيسبوك، لم أكن أمزح". ونشر المكي صورتين، إحداهما مزيفة تم تداولها على "فيسبوك"، نقلاً عن قناة فرنسية تم التلاعب فيها، بعدد المتظاهرين عبر تقنيات الفوتوشوب. وكتب: "على اليمين، المقال الأصلي. وعلى اليسار، الفبركة الفيسبوكية. عاش رئيس الجمهورية الفيسبوقراطية".