يتناول المقال تصوراً لمستقبل القوى السياسية التي تمثل فلسطينيي الـ48 في البرلمان الإسرائيلي، وهي الحزب الشيوعي الإسرائيلي-الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، التجمع الوطني الديمقراطي، الحركة الإسلامية الشق البرلماني، والحركة العربية للتغيير. بطبيعة الحال، محاولة تصور مستقبل القوى السياسية يشتق من راهن تلك الأحزاب ومن التطورات السياسية الحالية، وقدرة تلك الأحزاب على التعامل مع أو تغيير هذا الواقع، منها تنامي تصدعات سياسية واجتماعية جدية بين الأحزاب العربية وفي المجتمع العربي، بالإضافة إلى التطورات في المنظومة السياسية والحزبية الإسرائيلية، وتراجع التصدعات السياسية الجوهرية بين معسكر اليمين و"اللا يمين"، وتحولها إلى صراعات شخصية، وبراعم قبول مشاركة أحزاب عربية الائتلاف الحكومي بحال رضوخها لشروط الإجماع الصهيوني.
راهن الأحزاب السياسية الفاعلة في المشهد السياسي لفلسطينيي الـ48 هو امتداد للتطورات السياسية التي حصلت منذ إنشاء القائمة المشتركة عام 2015 لغاية الآن. أبرزها التراجع المقصود والطوعي للنقاشات السياسية والفروق الجوهرية بين مركبات المشتركة بعد إقامتها عام 2015، لكن احتدامها في الجوانب الاجتماعية وبوادر نقاشات سياسية بعد التفكيك الثاني للمشتركة قبيل الانتخابات البرلمانية الأخيرة في آذار 2021. مجريات الأمور منذ الانتخابات الأخيرة تشي بأننا في صدد منافسة مستقبلية بين ثلاثة مشاريع سياسية أساسية.
إقامة القائمة المشتركة عام 2015 لم تستند إلى مشروع وبرنامج سياسي جماعي متفق عليه من قبل كافة المركبات لطرح مطالب جماعية موحدة تعكس أمنيات ورغبات المجتمع العربي في الداخل، ليعرض كمشروع مناهض وبديل للمشروع الصهيوني الاستعماري، بل ارتكز إلى برنامج عمل برلماني متفق عليه بالسقف الأدنى الجامع لكافة المركبات، وهو عبارة عن مجموعة أهداف وعناوين سياسية تتمحور حول أهمية دور القائمة المشتركة في التصدي لليمين الفاشي التي قد تصل حد إزاحته عن سدة الحكم؛ زيادة القوة السياسية والتأثير السياسي للمجتمع العربي من خلال زيادة عدد ممثليهم في البرلمان؛ أهمية الوحدة وأثرها على العمل الجماعي للعرب في إسرائيل.
غياب المشروع السياسي الجماعي واكتفاء "المشتركة" بخطاب التأثر وإسقاط اليمين، ساهم في فشل القائمة بالتعامل مع المطبات والإشكاليات التي واجهتها بعد انتخابات 2015، وكذلك يمكن اعتبارها بذوراً لأسباب تفكك "المشتركة" بشكل نهائي قبيل انتخابات مارس/آذار 2021، الذي جاء ظاهريا كنتيجة مباشرة للخلاف حول القضايا الاجتماعية والتصويت على قوانين اعتبرت داعمة لقضايا المثليين، لكنه عَكَس دوافع مبطنة تتعلق بخلافات سياسية بين المركبات.
قبيل انتخابات مارس/آذار 2021، برزت رغبة الحركة الإسلامية في الاندماج التام في اللعبة السياسية الإسرائيلية، ولو بشروط الأحزاب الإسرائيلية، من ضمنها شروط اليمين واليمين المتطرف، الذي يعني، فيما يعني، الابتعاد والتنازل عن المطالب السياسية الجماعية للمجتمع الفلسطيني والاكتفاء بالقضايا المعيشية اليومية، دون ربطها بالمكانة القومية للمواطنين العرب وبطبيعة وجوهر دولة إسرائيل، والابتعاد عن قضية الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، بالتوازي لطرح مواقف متشددة في القضايا الاجتماعية والدينية، أي مواقف أكثر تطرفا في الجوانب الاجتماعية والدينية، ومواقف مقبولة على الإجماع الصهيوني في الجوانب السياسية.
مقابل ذلك حاولت الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحركة العربية للتغيير، الاندماج في اللعبة البرلمانية والحزبية الإسرائيلية، وفقا لسقف المركز واليسار الصهيوني، والعمل على بناء تحالفات بغية إسقاط اليمين، وتحويل "المشتركة" إلى جزء عضوي وشرعي من المنظومة الحزبية والسياسية الإسرائيلية، بالسقف السياسي الذي تقبل به المنظومة القائمة لا بتحديه أو اختراقه، نحو المطالبة بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية بالشروط التي يعرضها الإجماع الصهيوني وتقبل بها السلطة الفلسطينية، والمطالبة بالديمقراطية والمساواة للمجتمع العربي، وتحقيق العدالة الاجتماعية-الاقتصادية. أي العمل لتحسين الواقع وتقليل العنصرية والتمييز تجاه المواطنين العرب، دون توضيح الشروط لتحقيق ذلك ولا الاشتباك مع طبيعة إسرائيل وجوهرها. يمكن القول إن هذا الخطاب كان الأقوى لغاية انتخابات مارس/آذار 2021.
في المقابل، حاول التجمع الوطني الديمقراطي الابتعاد عن هذه المعادلات، وطرْح خيار ثالث مناهض للصهيونية، ويرتكز على تمثيل أقلية قومية تطرح تحدياً ديمقراطياً أخلاقياً للمشروع الصهيوني بصيغة دولة المواطنين، ويطالب بالحقوق الجماعية للمجتمع الفلسطيني، ويربط بين القضايا اليومية والقومية، ويوضح علاقتها بطبيعة وجوهر دولة إسرائيل، إلى جانب إقامة دولة فلسطينية، ودون الوقوع في مطب التوازنات والخلافات داخل المنظومة الحزبية الإسرائيلية. إلا أن هذا الطرح كان الأضعف في هذا الاصطفاف بسبب هيمنة خطاب التأثر والإنجازات وإسقاط اليمين، وتراجع ما في قوة وتأثير مشروع التجمع الوطني الديمقراطي في العقد الأخير.
بهذا المعنى، فإن محاولة الأحزاب العربية ضبط الخلافات السياسية، تخفيفها أو تأجيلها بعد إقامة القائمة المشتركة عام 2015، بغية إنجاحها والحفاظ عليها، أدت في واقع الأمر إلى عكس المرجو، وعادت وفتحت الخلافات الأيديولوجية السياسية بين الأحزاب العربية، وأدت إلى تفكيك القائمة المشتركة، بل أضيف لها تصدع جدي جديد بصيغة الخلافات في القضايا الاجتماعية والدينية. كذلك هناك دخول عامل جديد إلى مشهد العمل السياسي والبرلماني للأحزاب العربية، وهو قبول أحزاب اليمين واليمين المتطرف، لأول مرة منذ إقامة دولة إسرائيل، إشراك حزب عربي (الحركة الإسلامية) في الائتلاف الحكومي، تحت سقف وشروط أحزاب اليمين واليمين المتطرف. وهذا تحول ليس بسيطا، وستكون له تبعات وإسقاطات على العمل الحزبي والبرلماني للفلسطينيين في الداخل، في حال فشلت هذه التجربة أو نجحت.
في حال استمرار هيمنة خطاب التأثر والإنجازات على أشكاله، وغياب مشروع سياسي جماعي للفلسطينيين في الداخل يمثل الغايات والأهداف القومية والمدنية، ويتحدى المشروع الصهيوني على تياراته المختلفة، ويوضح حدود وأدوات وشروط التأثير ومعاني الإنجازات، دون التنازل عن الثوابت والمطالب القومية الجماعية، واستمرار هيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل، فإن مستقبل التيارات السياسية التي تمثل فلسطينيي الـ 48 سيدور حول صراع المشاريع المتنافسة الحالية وتطورها:
- الحركة الإسلامية ستسعى إلى تعميق مشروع التأثر والإنجازات، ومحاولة تحسين القضايا المعيشية للمواطنين العرب، بالتوازي لتغييب البعد القومي الجماعي والقضية الفلسطينية، أي الخضوع لشروط اليمين المتطرف، وتعزيز خطابها المحافظ اجتماعيا لضمان الشرعية الجماهيرية.
هذا معناه قبول إسرائيل كما هي دولة لليهود، ويعني وفقا لمقاربات الاستعمار الاستيطاني نجاح المشروع الصهيوني بتفتيت أصحاب الأرض، ومحو روايتهم التاريخية، وتطبيع دولة إسرائيل، ومحاولة إغلاق ملف الحقوق التاريخية الجماعية للفلسطينيين في الداخل، وسيكون له إسقاطات خطيرة على القضية الفلسطينية.
- أصحاب مشروع الاندماج تحت سقف وشروط المركز واليسار الصهيوني، الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة، سيعملون لإقناع المجتمع أن مشروعهم يمكن أن يحقق إنجازات أفضل وتأثيرا أقوى دون التنازل عن حل القضية الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال وتحقيق مساواة للمجتمع الفلسطيني، لكن دون تحدي جوهر الدولة، وسيعملون على تعزيز شراكتهم مع اليسار الصهيوني ومع المجتمع الإسرائيلي.
- أما التجمع الوطني الديمقراطي سيكون عليه تحد أصعب، بحيث يمكن أن يؤدي تعميق مشاريع التأثر والإنجازات بأنواعها، إلى تراجع جدي في عامل الهوية والانتماء القومي لدى المجتمع العربي، وتراجع في مطالب الحقوق الجماعية، ومحاولة لفك الربط بين الحقوق المدنية والقومية، وتراجع مطلب دولة المواطنين، والاكتفاء بالقضايا اليومية الحارقة، بالتوازي للجمود في القضية الفلسطينية، ومحاولة إسرائيل فرض حل الأمر الواقع. لذلك على التجمع العمل على إعادة بلورة مشروعة السياسي ليتلاءم مع الواقع الجديد، مع إعادة توضيح العلاقة بين الحقوق القومية الجماعية والحقوق المدنية المعيشية، وكيف يشتق الثاني من الأول، وتوضيح معاني دولة المواطنين، وماهية الأدوات لضمان الحقوق الجماعية للمجتمع العربي وللمجتمع اليهودي في إسرائيل.
المعطيات الحالية في المشهد السياسي الإسرائيلي والفلسطيني، لا ترجح كفة لأي من المشاريع السياسية المتنافسة، بسبب مستوى السيولة العالي في المنظومة الحزبية والسياسية في إسرائيل، وصعوبة تكهن مصير الحكومة الحالية وتماسكها. صحيح أن مركبات الائتلاف تبذل لغاية الآن جهداً في الابتعاد عن الملفات الشائكة والمطبات السياسية، إلا أن ذلك لا يمنع من احتمال تفجرها في المستقبل. أي تغير جدي في المشهد السياسي الإسرائيلي سيكون له إسقاطات على التيارات السياسية العربية، وعلى مشاريعها ومدى قبولها لدى المجتمع العربي. كذلك تتعلق الأمور بتطورات الحالة الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 67 وخاصة في غزة. تجربة الماضي توضح أن أي تحرك في المشهد الفلسطيني يؤدي إلى ارتدادات في الساحة السياسية والنضالية لدى الفلسطينيين في الداخل، كما حصل في مايو/أيار الماضي. كذلك أي تغير في حالة المشروع الوطني الفلسطيني يمكن أن يؤثر مباشرة على الساحة السياسية لدى الفلسطينيين في الداخل. فعلى سبيل المثال في حال تنامي النقاش والمقاربات التي تطرح حل الدولة الواحدة، دولة ديمقراطية لكل مواطنيها أو دولة ثنائية القومية، يمكن أن تغير أيضا عناوين النضال والمشاريع السياسية لدى الفلسطينيين في الداخل نحو تبني تلك النماذج، خاصة في حال استمرار هيمنة وسيطرة اليمين الاستيطاني على المشهد السياسي في إسرائيل وتآكل إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية.