للعام الثاني على التوالي، تشهد المراسم الدينية السنوية لذكرى عاشوراء في مدينة كربلاء، جنوبي العراق، العديد من الفعاليات والخطب والمحاضرات التي تتضمّن انتقادات واسعة وشعارات مناهضة للأحزاب السياسية والقوى النافذة في البلاد، تصوب بالمجمل على الفساد وتردي الخدمات واتساع نطاق الفقر والبطالة في البلاد، فضلاً عن رفض ما باتت تعرف في العراق بـ"قوى اللادولة"، في إشارة إلى الجماعات المسلحة الحليفة لطهران. هذه الظاهرة تُقابل باهتمام كبير وبالغ من قبل الفاعلين الرئيسيين في البلاد، بسبب أهمية المكان والجمهور المتلقي لمثل هذه الفعاليات، إذ بدأ منذ أيام توافد العراقيين إلى مدينة كربلاء، بينما تشهد مطارات النجف وبغداد والبصرة ومنافذ العراق مع إيران والكويت وتركيا، فضلاً عن سورية توافد المزيد من الزائرين الدينيين إلى البلاد. ووسط هذه التطورات يُرجّح عدم فرض السلطات قيوداً جديدة لمواجهة وباء كورونا، الذي يسجل انتشاره أرقاماً قياسية في البلاد.
تتسع ظاهرة توجيه رسائل الرفض والاعتراض على العملية السياسية
وتؤكد شخصيات من كربلاء في أحاديث متفرقة مع "العربي الجديد"، أن توجيه رسائل الرفض والاعتراض على العملية السياسية بالمجمل خلال المراسم والفعاليات الدينية جنوبي العراق، آخذ في الاتساع، عبر المجالس الحسينية والأهازيج، وما يعرف شعبيا في العراق بـ"الردّات" و"العرضات". ويشيرون إلى أن الرسائل لم تعد غير مباشرة كما كانت سابقاً، إذ صارت أكثر صراحة وعلنية بذكر أسماء وجهات تُعتبر متورطة بما آلت إليه الأوضاع في العراق، مستغلين الحشود التي تقصد المدينة بمثل هذه الأيام.
وعادة ما تكون تلك الفعاليات عبر مواكب العزاء التي تنصب على مداخل كربلاء وعلى الطرق المؤدية إلى الحرم الحسيني، ويديرها شبان شاركوا في الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد في العامين الماضيين والمطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية وإنهاء الفساد، وتمكين مؤسسات الدولة والقانون. وخلال اليومين الماضيين، أثيرت ضجة حول خطبة وصفت بـ"غير المسبوقة" للشيخ حميد الياسري، ألقاها في "موكب عزاء الرميثة" في مدينة كربلاء، قال فيها: "تعلمنا من الإمام الحسين أن من يوالي غير وطنه خائن"، مضيفاً "ليست من عقيدة الحسين أن يأتينا الصوت والتوجيه من خلف الحدود. نرفض هذه الانتماءات وهذه الولاءات ونرفض ونعلن بأعلى أصواتنا بلا خوف وبلا تردد، من يوالي غير هذا الوطن فهو خائن ومحروم". وختم خطبته بالقول "أعلم أن هناك من سيوصل هذا الكلام إلى خارج الحدود وسيفتون بقتلي بعنوان أننا نهدد هذه الولاءات، كما فعلوا بمن خرج للتظاهر للمطالبة بالحقوق وقالوا هذا عميل فقتلوهم ولا قيمة لنا إن لم نقل الحق".
وبدا لافتاً هذا العام وجود موكب أطلق عليه "موكب تشرين"، في إشارة إلى التظاهرات الشعبية التي انطلقت في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2019. ويتجمّع عشرات الشباب الناشطين من أعضاء الموكب يوزعون منشورات فضلاً عن الرايات واليافطات المرفوعة والتي تتضمن رسائل سياسية رافضة للوضع الراهن، على غرار "لا نرحب بالسياسيين وأنصارهم في مواكبنا"، وأهازيج باللهجة العراقية الدراجة مثل "الناشط ليش يذبحوه ضد المجهول يسجلوه"، و"الأحزاب صارت تذبح بالكاتم"، وشعارات أخرى.
وعلى مقربة من المدينة القديمة في كربلاء، يظهر أبرز المواكب التي عُرفت في المدينة كمنبر لانتقاد الأحزاب والقوى السياسية عموماً بعد عام 2003. وقال مسؤول الموكب رضا حسن لـ"العربي الجديد"، إن "دعوات الإصلاح ضد الظلم والفساد كانت من كربلاء وستبقى فيها". وأضاف حسن الذي يتولى بنفسه كتابة أهازيج وأشعار لإلقائها في الموكب، أن النزعة الإنسانية لهذه الذكرى تجعل المؤمنين بها يرفضون كل أشكال الظلم والاستغلال والفساد والتربح ومصادرة حق الآخرين بحياة كريمة". وخلافاً للسنوات الماضية، يتجه محتوى الأهازيج والشعارات لمعارضة الوضع السياسي العراقي.
يتجنّب سياسيون المشاركة في الفعاليات الدينية خشية من المواطنين
من جهته، قال الناشط رائد الدعمي، وهو أحد المتظاهرين البارزين في كربلاء، لـ"العربي الجديد"، إن "وجودهم في كربلاء يُعتبر أحد وجوه الحراك الشعبي للمطالبة بالإصلاح وفضح كل من أوصلنا إلى هذه الحالة". وأضاف: "هنا الصوت أكثر تأثيراً على الشارع وعلى السياسيين وزعماء الأحزاب".
ورأى محمد بركات وهو من أهالي كربلاء، أن الشعارات والفعاليات باتت "مسامير مزعجة للأحزاب"، مؤكداً في حديث لـ"العربي الجديد" أن "هناك شخصيات سياسية اعتادت المشاركة بين الحشود، باتت تتجنب ذلك بسبب نقمة الشارع بالعموم على الوضع الراهن". واعتبر أن "درجة الوعي عند العراقيين كبيرة، ويحاولون استغلال كل مناسبة للتعبير عن رفضهم واحتجاجهم على الوضع الراهن وعلى الفساد وقوى اللادولة التي تواصل رهن مستقبل وأجيال العراق القادمة للمجهول"، مشدّداً على أنه لم "يعد بإمكان الأحزاب الرئيسة استخدام هذه المناسبات لمصلحتهم بسهولة كما كان الوضع سابقاً".
وعن هذه الظاهرة، لفت الباحث في الجماعات الإسلامية بمدينة كربلاء، تيمور الشهراني، إلى أنها "آخذة بالاتساع وتلاقي تفاعلاً شعبياً كبيراً". وأضاف في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "في الوقت الذي كانت فيه المواكب الحسينية تُستغل من قِبل الأحزاب والقوى السياسية لتقديم نفسها ضمن الإطار الديني والمذهبي المعروف، باتت اليوم تواجه تلك الأحزاب الشعارات والخطب المناهضة لها". واعتبر أن "تحوّل المناسبة الدينية الأهم في العراق إلى رسائل وخطب احتجاج على السلطة والقوى السياسية الحاكمة للبلاد، أمر غاية في الأهمية ويعكس ما يمر به الشارع العراقي عموماً والشيعي على وجه التحديد". وأشار إلى أن "مثل هذه الفعاليات تمثل نشاطاً سياسياً لافتاً للحراك الشعبي المطالب بالإصلاحات في البلاد، ولا قدرة للقوى السياسية أن تعارضه أو تفرض عليه قيوداً كما فعلت في ساحات التظاهر".