تشهد تونس فصلاً جديداً من الصراع بين السلطة والقضاة، بعد الاتهامات الخطيرة التي وجهتها وزارة العدل مجدداً للقضاة المعفيّين، ورفضها إلى حد الآن تنفيذ قرار المحكمة الإدارية بعودة هؤلاء القضاة إلى أعمالهم، بعد عدم ثبوت أي تهم بشأنهم.
وكان الرئيس قيس سعيّد قد أكد في الأول من يونيو/ حزيران 2022 في اجتماع وزاري أنّه بعد النظر في الملفات، والتدقيق والتمحيص لأسابيع "ثبت ارتكاب عدد من القضاة تجاوزات جسيمة وإخلالات تهدّد المصالح العليا للبلاد".
واتهم سعيّد قضاة بالتورط في فساد مالي وتزوير أوراق رسمية، والتستّر على متورّطين في الإرهاب، وحماية مسؤولين سياسيين وحزبيين من المحاسبة، ومنع إجراء تحقيقات أمنية في قضايا إرهابية.
وصدرت قائمة تضم 57 قاضياً تم إعفاؤهم، تولت وزارة العدل دفع تعويضات لهم لتسريع خروجهم النهائي، دخل على إثرها كامل الجسم القضائي في سلسلة احتجاجات ميدانية، وإضرابات الجوع، بدأها القاضي حمادي الرحماني، لاقت حملات مساندة واسعة من المجتمع المدني والأحزاب السياسية، توجه بعدها القضاة إلى المحكمة الإدارية التي أنصفت الكثير منهم، وأوقفت تنفيذ قرار عزلهم، وطالبت بعودتهم إلى مناصبهم.
جاء قرار المحكمة الإدارية بعد أن طلبت من وزارة العدل تقديم مؤيدات العزل وملفات الاتهامات، دون الوصول إليها، ليفاجأ الجميع، عشية السبت الماضي، بسلسلة اتهامات تقدمها الوزارة من جديد بشأن القضاة، بعد صدور قرار المحكمة الإدارية الذي يعتبر نافذا ونهائيا.
وقالت الوزارة، في بيان لها، إنها قامت بإحالة 109 ملفات للقضاء تتعلق "بجرائم مالية واقتصادية وأخرى ذات صبغة إرهابية في حق القضاة المعفيين، وأذنت بإحالة عدد مهم منها على الأقطاب القضائية المختصة في الجرائم الإرهابية والفساد المالي".
وأضاف البيان "تم فتح أبحاث تحقيقية في الغرض من أجل عدة جرائم كالفساد المالي والرشوة وغسيل الأموال والجرائم الاقتصادية والديوانية، بالإضافة إلى جرائم ذات صبغة إرهابية كالتستر على تنظيم إرهابي وتعطيل الإجراءات والانحراف بها".
وتأتي هذه الاتهامات المتأخرة تهرباً من تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية وتعطيلها.
واتهم منسق هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين، كمال بن مسعود، وزيرة العدل ليلى جفال، في تصريح إعلامي بـ"إثارة المغالطات لتبرير عدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية التي قضت بايقاف تنفيذ عدد كبير من قرارات إعفاء قضاة".
وكان مصدر مسؤول من المحكمة الإدارية قد أكد لـ"العربي الجديد" المضي في مسار تنفيذ للأحكام، مضيفاً "بعد أن تصدر أحكام قضائية لا يجب أن يتم خلق أسباب جديدة لعدم التنفيذ"، و"بمجرد إعلام الأطراف المعنية، يعلّق فوراً تنفيذ قرار الإعفاء، بمعنى رجوع الوضعية إلى ما كانت عليه قبل صدور القرارات"، موضّحاً أن "عدم التنفيذ يعني أننا دخلنا دولة اللاقانون" فلا معنى لـ"حكم لا ينفذ".
وقالت جمعيّة القضاة التونسيين، الإثنين، إنّ الاتحاد الدولي للقضاة أصدر بيان تضامن حول وضع السلطة القضائية في تونس، وخاصة افتعال التتبعات الجزائية ضد رئيس جمعية القضاة التونسيين، أنس الحمادي، على خلفية نشاطه النقابي، وحول افتعال ملفات وتتبعات جزائية من السلطة التنفيذية ضد القضاة المحكوم لفائدتهم بتوقيف التنفيذ وعدم تطبيق الأحكام القضائية للمحكمة الإدارية.
وقال القاضي حمادي الرحماني، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن هذه المرحلة من الصراع "ليست جديدة وهي استمرار لما حصل سابقاً من قبل السلطة السياسية والتي بدأت تخوضها منذ فترة لإخضاع القضاء والتحكم فيه وتوظيفه لأهدافها السياسية"، مؤكداً أنه "منذ 25 يوليو/ تموز يسعى رئيس الجمهورية بكل الأدوات لجعل القضاء تحت هيمنته، وهذا سمح له بحل المجلس الأعلى للقضاء وبعزل قضاة وعدم الإذعان للأحكام القضائية، رغم إشارته سابقاً بإمكانية لجوء القضاة إلى المحكمة الإدارية".
وأوضح الرحماني أن "هناك تسريبات ومؤشرات تشير إلى أن الرئيس سعيّد مقر بالخطأ في هذا الملف، وبوجود عدة أخطاء ومغالطات في قائمة القضاة المعزولين، بدليل أنه صامت بشأن هذا الملف تقريباً منذ شهرين، رغم إضرابات الجوع ورغم اضطرابات المحاكم، كما أنه لم يستقبل وزيرة العدل ليلى جفال لأكثر من شهرين، وامتنع عن إصدار العفو عن المساجين في 25 يوليو كما جرت العادة، لأن وزيرة العدل هي التي تقدم قائمة تتضمن المساجين الذين سيخضعون للسراح المشروط، ومع ذلك لم يفعل سعيّد ما يتوجب لتمتثل وزيرة العدل لقرارات المحكمة الإدارية".
وبين الرحماني أن "رئيس الجمهورية لم يشر أيضاً بوضوح إلى رفضه الامتثال لقرار المحكمة الإدارية، ولكن خطابات وزيرة العدل فيها تحدٍ لقرارات المحكمة ولموقف الرئيس نفسه، وتمادت في ذلك بخلع وتغيير أقفال مكاتب القضاة المعفيين، وهي بصدد إصدار بيانات إستفزازية وافتعال ملفات قضائية للقضاة المعزولين لم تتقدم بها للمحكمة الإدارية رغم مطالبتها بذلك".
وتساءل الرحماني عن صمت رئيس الجمهورية حيال تجاوزات وزيرة العدل، فقال: "لماذا صمت رئيس الجمهورية، وهل أذن لوزيرة العدل بالتصرف بتلك الطريقة"، مستدركاً "ما زلنا ننتظر الامتثال لأحكام المحكمة الإدارية ونتمسك بذلك ونترك الباب مفتوحاً ليأذن سعيّد بتنفيذ هذه القرارات، ولكن للأسف كلما مرت الأيام نقترب من الاقتناع بأنه إما يساندها بصمته أو أنه ضد التنفيذ".
ولفت الرحماني إلى أن "التهم التي ذكرها بيان وزارة العدل تندرج في إطار الدفاع عن رواية تورطت فيها وزيرة العدل وتمادت فيها، وهي لا تقوم لا بمكافحة الفساد ولا بمقاومة الإرهاب"، مبيناً أنها "تهم مبنية على مجرد تقارير أمنية، ولكن بعد أن فضحت أمام الرأي العام في غياب ملفات وتهم جدية ضد القضاة، تريد اليوم أن تقنع رئيس الجمهورية بذلك، وتحاول أن تتفصى من ملاحقة قضائية بحقها هي آتية بالضرورة".
وأفاد المتحدث أنهم "ما زالوا يأملون تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية"، مشدداً على أن "عدم التنفيذ سيدفع إلى الدخول في فصل جديد من الصراع. وقد يقود إلى مرحلة خطيرة هي مرحلة إزالة دولة القانون والقضاء المستقل وضرب مصداقية الدولة".