وصل المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي إلى إيران، وذلك في زيارة جديدة بعد سلسلة زيارات "فاشلة" خلال السنوات الماضية، غير أن هذه الزيارة تكتسب أهمية كبيرة لكونها تأتي في توقيت وظروف متوترة "تقلص مجال المناورة"، بحسب ما قال غروسي قبل الزيارة.
ويسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى إبراز البرنامج النووي الإيراني على أنه من أحد أهم الأدوات في المواجهة المشحونة الراهنة مع طهران، واستغلال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض صاحب استراتيجية "الضغط الأقصى"، لدفعه نحو اتخاذ مواقف أكثر صرامة ضد إيران، إذ أوردت وسائل إعلام إسرائيلية، هذا الأسبوع، أن وزير الشؤون الاستراتيجية للاحتلال رون ديرمر ناقش مع ترامب خلال زيارته لواشنطن الملف النووي الإيراني، الذي سبق وأن أعلن خلال حملته الانتخابية أنه يشكل أهم ملف خلافي له مع إيران.
وفي ظل هذه التطورات، تُطرح تساؤلات ملحة حول احتمالات تحقيق زيارة غروسي انفراجات في الخلافات بين الوكالة وطهران قد تساهم في تبديد المخاوف الدولية بما يسحب من ترامب أوراق وذرائع، يستخدمها الأخير لزيادة الضغط على طهران إلى مستويات أبعد من دورته الرئاسية الأولى.
والتقى غروسي صباح اليوم الخميس مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي على أن يلتقي في وقت لاحق اليوم أيضا مع الرئيس مسعود بزشكيان ورئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي.
وتدور الخلافات بين إيران والوكالة الدولية بشأن ثلاثة مواقع مشتبهة بممارسة أنشطة نووية غير معلنة من أصل أربعة، قالت طهران خلال سبتمبر/أيلول الماضي إنها تقلصت إلى موقعين، فضلا عن طلب الوكالة منها بزيادة عمليات التفتيش والشفافية وتركيب المزيد من كاميرات المراقبة في ظل تقدم كبير شهده البرنامج النووي الإيراني منذ الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي عام 2018.
سياقات زيارة غروسي
يقول الخبير الإيراني هادي خسروشاهين لـ"العربي الجديد" إن أهمية زيارة غروسي تأتي في ظل عدة سياقات؛ أولها، أنها تسبق الاجتماع الفصلي لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي من المقرر أن يبدأ الاثنين المقبل، وسط توقعات بإصدار قرار آخر ضد إيران في حال استمرت الخلافات بين طهران والوكالة "من شأنه أن يزيد من تعقيدات الملف النووي".
أما السياق الثاني، فإنه يتعلق بموعد الزيارة التي تأتي بعد فوز ترامب بالرئاسة الأميركية مجددا وقبل توليه إياها في 20 يناير/كانون الثاني، ولذلك "ربما تحاول إيران استخدام الزيارة لخفض الضغوط المستقبلية انطلاقا من إرسال إشارات إلى ترامب بأنها جاهزة لحل ملفها النووي" وأنها لا تسعى إلى تغيير عقيدتها النووية. ويرى الخبير الإيراني أن حل القضايا الفنية بين إيران والوكالة من شأنه أن يخفف تلك الضغوط التي يتوقع أن يمارسها الرئيس الأميركي المنتخب.
ويضيف خسروشاهين أن إيران "ربما تكون راغبة أكثر من قبل في حل قضاياها أو جزء منها مع الوكالة"، مشيرا إلى توصل غروسي ورئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية إلى "خريطة طريق" خلال زيارته في مارس/ آذار 2023 لطهران لكن ثمة تفسيرات متباينة للطرفين لاحقا بشأن الخريطة حالت دون تطبيقها.
ويرجح الخبير الإيراني التوصل إلى تفاهمات ومبادرات، منها حول تركيب كاميرات مراقبة في منشآت إنتاج وتجميع أجهزة الطرد المركزي، متوقعا أن طهران ستبدي من خلال ذلك عزيمتها للأطراف الأميركية والأوروبية أنها "جادة"، غير أن خسرو شاهين رغم ذلك لا يستبعد أيضا أن تقوم تلك الأطراف بتمرير قرار ضد إيران انطلاقا من قناعتها بأن تلك الخطوة الإيرانية "غير كافية".
مباحثات ذات أبعاد إقليمية
من جهته، يقول الخبير الإيراني أحمد زيدأبادي لـ"العربي الجديد" إن غروسي يزور إيران لأول مرة في عهد الرئيس الإيراني الإصلاحي مسعود بزشكيان وكذلك بعد عودة ترامب للسلطة، وسط توقعات بأن يتصدر الملف النووي الإيراني مرة أخرى الاهتمامات العالمية، متحدثا عن الأهمية القصوى للزيارة لدرجة أن "نتيجة مباحثات غروسي مع المسؤولين الإيرانيين ستساهم في رسم مستقبل الشرق الأوسط".
يضيف زيدأبادي أن غروسي رغم توليه "منصبا فنيا مهنيا لكنه "سياسي ذكي أيضا، وربما يتخطى بذلك القضايا التقنية إلى استخدام عودة ترامب للسلطة وتهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كورقة للمساومة".
رد حازم على أي قرار
بدوره، يؤكد الصحافي الإيراني عباس أصلاني أن مباحثات غروسي مع المسؤولين الإيرانيين "فرصة حيوية لبناء الثقة والمضي قدما في التعاون بين الطرفين"، لافتا في حديثه مع "العربي الجديد" إلى أن الدعوة الإيرانية لغروسي والتحضير لمباحثاته مع كبار المسؤولين الإيرانيين "مؤشر على رغبة إيرانية في التعامل البناء مع الوكالة في القضايا الثنائية".
ويضيف الصحافي المقرب من الخارجية الإيرانية أن "إيران لطالما أكدت أن التعامل ذا المغزى مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية طريق ذو اتجاهين يستلزم أن تمارس الوكالة أيضا سلوكا بناء"، مؤكدا أنه "حسب معلوماتي فإن طهران سترد بحزم على أي قرار يصدر في اجتماع مجلس المحافظين" ضد إيران، متوقعا أن تؤثر مباحثات غروسي في طهران على المداولات في اجتماعات المجلس الأسبوع المقبل، فضلا عن مستقبل الاتفاق النووي المترنح.
ويوضح أن التقدم في التعاون بين إيران والوكالة الدولية يعرقلها منذ فترة تدخل الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) ما حال دون التوصل إلى "نتائج إيجابية"، قائلا إن تصريحات المدير العام للوكالة "تتهدد مهنية الوكالة وأرسلت إشارات متناقضة للمجتمع الدولي"، مضيفا أن غروسي "أمام خيار حاسم، إما الحفاظ على دور الوكالة مؤسسةً مهنية أو الانخراط في لعبة جيوسياسية أوسع".
وكان المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية قد دعا قبل زيارة طهران في تصريح لوكالة "فرانس برس"، السلطات الإيرانية إلى أن "تعي أن الوضع الدولي أصبح متوتراً بشكل متزايد"، مضيفاً أن "مجال المناورة بدأ يتقلص وأنه من الضروري إيجاد سبل لحل دبلوماسي". وتابع غروسي أن "الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعمل في إيران، وتجري عمليات تفتيش، لكنني أقول دائماً إننا بحاجة إلى مزيد من الشفافية، ونظراً لاتساع نطاق البرنامج الإيراني وعمقه وطموحه، نحن بحاجة إلى إيجاد طرق لمنح الوكالة المزيد من القدرة على المراقبة".