شكلت انتفاضة أو هبة كل فلسطين منعطفا هاما في مسار التحرر الفلسطيني، الأمر الذي أعاد لنا ذكريات الانتفاضة الأولى، بتفاصيلها وتأثيرها المعنوي والمادي على مسار تحرير فلسطين. الأمر الذي دفع البعض إلى التعبير عن ضرورة محاكاة انتفاضة أو مقاومة اليوم الشعبية لنظيرتها الحاصلة في الانتفاضة الأولى. لكن وعلى الرغم من أهمية الانتفاضة الأولى ونموذجيتها، إلا أننا أمام معطيات جديدة ومختلفة كليا عن تلك السائدة في أثناء الانتفاضة الأولى، ما يجعل من استنساخ تلك التجربة اليوم، أمرا صعبا ومكلفا جدا على الكتلة الاجتماعية الحاملة لمشروع تحرير كل فلسطين.
إذ اختلفت الوقائع الميدانية كثيرا في كل فلسطين بعد توقيع اتفاق أوسلو، وكذلك بعد الصراع الحمساوي- الفتحاوي، وأيضا بعد إقرار قانون القومية، حيث أصبح تواصل التجمعات الفلسطينية المختلفة أمرا شبه مستحيل، بفعل جدار الفصل العنصري، وتنامي الحركة الاستيطانية، وحصار وعزل قطاع غزة، وتكثيف جهود الأسرلة في المناطق المحتلة عام ١٩٤٨. وأيضا نلحظ تبدلات مؤثرة بل وربما خطيرة على المستوى الاقتصادي، حيث عمل جهاز الدولة الصهيوني على تقليل مساهمة وبالتالي تأثير الكادر البشري والقطاع الاستثماري الفلسطيني في الاقتصاد الصهيوني، من خلال التخلص من الأعباء المترتبة على احتلال مناطق ٦٧؛ بالتحديد مناطق الضفة وغزة؛ وتعزيز دور المنظمات غير الحكومية وجهاز السلطة البيروقراطي اقتصاديا فيهما، من خلال تحويله إلى مصدر دخل كتلة بشرية كبيرة، فضلاً عن ارتفاع نسب المعتمدين على العمل الخيري. بالإضافة إلى سيطرة جهاز الدولة الصهيوني في اقتصاد ودخل المجتمع الفلسطيني على اعتباره السلطة الاقتصادية المتحكمة بحركة الأموال والسلع من وإلى مناطق السلطة.
استنادا إلى هذه التحولات أو المتغيرات القسرية التي نجح جهاز الدولة الصهيوني في إحداثها، بدعم وتعاون دولي لا مثيل له، وللأسف في ظل خنوع وتواطؤ الجسم السياسي الفلسطيني ولاسيما قيادة السلطة وحركة فتح، لابد من ملاحظة معوقات فرض ساحة مواجهة ثابتة ودائمة وحاشدة، على فترة زمنية طويلة كما في الانتفاضة الأولى، دون أن يعني ذلك غياب هذا الشكل النضالي كليا، إذ شهدناه في ساحات المسجد الأقصى على امتداد أيام عديدة، وكذلك في بعض مناطق الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام ١٩٤٨. في المقابل نحن نشهد اليوم تطورا وتنوعا مميزا وضروريا في آليات وأشكال المقاومة الشعبية المتوافقة مع الظروف الراهنة، مثل أسبوع الاقتصاد الفلسطيني، والإضراب الشامل الذي تم تحديده بيوم واحد فقط، وماراثون القدس، فضلا عن الصمود والاعتصام في المدن والبلدات والعقارات المهددة بحملات التطهير العرقي والإخلاء والتهجير القسري الصهيوني، وصولا إلى نشاطات الإرباك الليلي التي طبقتها بلدة بيتا على سبيل الذكر لا الحصر.
أي تبحث الكتلة الاجتماعية الشعبية الحاملة لمشروع تحرير فلسطين كل فلسطين، عن وسائل المقاومة والنضال المتوافقة مع ظروفهم اليومية والميدانية، بل وتبدع أشكالا نضالية جديدة على الساحة الفلسطينية، بعضها مستقاة من تجارب الحركة الثورية الصاعدة في المنطقة العربية منذ العام ٢٠١١، وبعضها مستقاة من تجارب التحرر العالمية، وهو مؤشر على حيوية وفعالية النشاط الثوري والنضالي الشعبي، وربما يعتبر مؤشرا على ديمومته مستقبلا انطلاقا من سمتين مهمتين في جميع هذه الفعاليات النضالية. تتمثل السمة الأولى في انتشار ساحات المواجهة، أي تعدد أماكنها الجغرافية، من نشاطات وفعاليات داخل الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨، إلى القدس والضفة وكذلك قطاع غزة وإن كانت أقل ظهورا الآن، ما ساهم في توسع رقعة المواجهة جغرافيا ونوعيا، بمعنى تنوع أساليبها أيضا إلى جانب تنوع مواقعها الجغرافية، من المواجهة الميدانية إلى الاقتصادية أو الإعلامية أو القانونية. أما سمة هذه الانتفاضة الشعبية المميزة أو سمة المقاومة الشعبية الراهنة الثانية، فهي تنويع وتجديد الأشكال النضالية المناطقية والمعممة على كل فلسطين، تجديدا يقلل من التبعات المحتملة لكل شكل نضالي، لذا لم يتم إرهاق كاهل الكتلة الشعبية الفلسطينية بإضراب شامل طويل الأمد، يمتد لأيام عديدة، أو بالدعوة إلى فعاليات اقتصادية يومية لأجل غير معلوم، بل حدد كلا النشاطين بمدة زمنية معقولة لا يترتب عليها أي تبعات اقتصادية مرهقة لشعب فلسطين، ومن الوارد تكرار هذه التجارب النضالية لاحقا على فترات زمنية متباعدة نسبيا. وكذلك ساهم تعدد ساحات ومناطق الثبات والاعتصام في تخفيف أعباء التنقل بين المدن والبلدات المحاصرة صهيونيا عبر الحيش أو جدار الفصل أو المستوطنين، لتخلق الكتلة الاجتماعية نقاط مواجهة واشتباك واعتصام متعددة الأشكال ومتباعدة جغرافيا، وموحدة سياسيا ووطنيا، تحت شعار مجابهة ومقاومة سياسات التطهير العرقي والفصل العنصري، وهو المعبر الأهم على كونها جزءا من مسار النضال من أجل تحرير فلسطين كل فلسطين، أرضا وشعبا.