عرقلة وألاعيب في مواجهة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت

23 فبراير 2023
وقفة للمطالبة بالعدالة بانفجار المرفأ، بيروت، يناير الماضي (حسين بيضون)
+ الخط -

"لن ننسى"، "سنلاحقكم إلى أن تتحقق العدالة"، أو أيضاً "عار على القضاء"، هي شعارات نقرأها على لافتات عدة مرفوعة أمام قصر العدل في بيروت. في ذاك الخميس 26 يناير/كانون الثاني 2023، انفجر غضب العشرات من أقرباء ضحايا انفجار مرفأ بيروت، يساندهم ناشطون من المجتمع المدني وبعض النواب، احتجاجاً على عرقلة التحقيق في هذا الانفجار مجدداً، وذلك بعد أكثر من عامين ونصف على الحادثة.

بعد تعليقٍ دام 13 شهراً بسبب ضغط سياسي كبير، قرّر المحقق العدلي في فاجعة 4 أغسطس/آب 2020، طارق البيطار، استئناف عمله في يناير الماضي، وذلك عبر الادعاء على شخصيات عدة، من بينها النائب العام التمييزي غسان عويدات ومسؤولان أمنيان رفيعان "بجرائم القتل (...) معطوفة على القصد الاحتمالي". رداً منه، قرّر عويدات ملاحقة القاضي البيطار بتهمة "التمرّد على القضاء" و"اغتصاب السلطة"، وأيضاً إخلاء سبيل الموقوفين في قضية انفجار المرفأ كافة.

بالنسبة إلى ميراي خوري، والدة إلياس، وهو فتى يبلغ من العمر 15 عاماً قضى في الانفجار، شكّل القرار صدمة، وتقول خلال مشاركتها في التظاهرة: "ليست هذه المرة الأولى التي تحاول فيها السلطات إعاقة التحقيق، غير أن تصرّف عويدات يثبت مرة جديدة أن مؤسساتنا القضائية والسياسية فاشلة وفاسدة تماماً".

غيدة فرنجية، المحامية في المفكرة القانونية، وهي منظمة غير حكومية للأبحاث والمناصرة، ترى من جانبها أن عويدات، بصفته شخصاً مدّعى عليه، ليست لديه الصلاحيات اللازمة للإفراج عن أشخاص أوقفهم المحقق العدلي. كما أن قراره موضع نقاش أكثر، لأنه جرى إبعاده عن التحقيق نهاية عام 2020 بسبب صلة قرابة تربطه بغازي زعيتر، وهو وزير نقل أسبق ملاحق أيضاً في هذه القضية. "لا حاجة لإجازة في القانون لإدراك أن متهماً في قضية ما لا يحوز صلاحية إخلاء سبيل متهمين آخرين"، تقول فرنجية بغضب.

ادعى البيطار أخيراً على شخصيات عدة، من بينها النائب العام التمييزي غسان عويدات ومسؤولان أمنيان رفيعان

بالنسبة إلى النائب ملحم خلف، نقيب محامي بيروت سابقاً، والذي شكّل رفقة 22 محامياً متطوعاً مكتب ادّعاء يمثّل اليوم أكثر من 1400 ضحية للانفجار، فإنه يرى أن قرار النائب العام التمييزي يفتقر إلى سند. "هكذا انتهاك صارخ تتصف به جمهورية موز، أو الأدغال، ولا يمكن قبوله في دولة القانون. يُظهر هذا القرار خللاً وظيفياً حقيقياً يطاول القضاء".

نائب عام "حارس لنظام الإفلات من العقاب"

"ما يجري بين القاضي البيطار والنائب العام عويدات يتجاوز كونه نزاعاً، فهذه المواجهة تعكس هجوماً جديداً للقوى السياسية على قاض يحاول كسر دائرة الإفلات من العقاب"، تتابع غيدة فرنجية مضيفة: "إن نظاماً سياسياً بأكمله يقف خلف النائب العام. كيف يمكن بغير ذلك شرح تنفيذ القوى الأمنية للقرار غير القانوني بالإفراج عن المتهمين في غضون ساعات؟".

شغل عويدات الذي تصفه فرنجية بـ"الحارس لنظام الإفلات من العقاب"، منصب قاضي التحقيق الأول في بيروت لسنوات، قبل تعيينه نائباً عاماً تمييزاً في عام 2019 من قبل حكومة سعد الحريري. وتواصل بالقول: "خلال هذه الفترة، كان عويدات يتخذ قرارات ترمي بوضوح إلى منع مثول جرائم كبيرة أمام القضاء أو تعويض الضحايا".

عقب أزمة النفايات التي هزّت لبنان في 2015، أصدر قاضي التحقيق الأول السابق في بيروت في عام 2017 قراراً بردّ الدعوى لصالح الشركات التي كانت مكلفة بمعالجة النفايات في البلاد خلال نحو 20 عاماً. وخرجت شركات مثل "سوكلين" و"سوكومي" المتهمتان باختلاس أموال عامة، بلا أي ملاحقات قانونية. وكان يتصف بالجمود منذ أن أصبح نائباً عاماً، مثلاً حيال المصارف المسؤولة بصورة كبيرة عن الأزمة الاقتصادية التي تهز البلد. "في عام 2020، ألغى عويدات قرار القاضي علي إبراهيم تجميد أصول مصرفية. وهو أيضاً الذي وضع عراقيل ليمنع أن تطاول الملاحقات حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، الذي يشتبه اليوم بأنه قام بتبييض أموال وبارتكاب عدة جرائم مالية"، تتابع فرنجية.

قاضٍ فوق الشبهات

على العكس، يوصف القاضي البيطار من قبل فرنجية ومحامين آخرين بأنه "جاد جداً"، "دون أي شبهة فساد"، و"لا يترك سوى ملفات قليلة جداً معلقة". بعدما استهل مسيرته قاضياً منفرداً جزائياً في شمال لبنان إلى عام 2010، صار مدعياً عاماً استئنافياً في محافظة لبنان الشمالي قبل أن يرأس محكمة جنايات بيروت في 2017.

قرّر عويدات ملاحقة القاضي بيطار بتهمة "التمرّد على القضاء" و"اغتصاب السلطة"

بنيت سمعة الاستقلالية والنزاهة عنه على خلفية قضايا عدة معقدة دافع خلالها عن مصلحة الضحايا، على غرار قضية إيلا طنوس. ففي عمر ست سنوات، تعرضت هذه الطفلة في عام 2015 إلى بتر أعضائها الأربعة على إثر التهاب تأخر تشخيصه، وهو تأخير عدّه الأهل خطأً طبياً. وفي 2020، حكم القاضي بيطار على مستشفيين خاصين وطبيبين بدفع تعويضات كبيرة لعائلة الطفلة.

بعد عزل القاضي فادي صوان بسبب ضغوط سياسية، انتهى الأمر بتعيين بيطار في فبراير/شباط 2021 ليتولى منصب المحقق العدلي المكلف التحقيق في فاجعة 4 أغسطس.

تحقيق حاسم لمستقبل البلاد

منذ هذه التطورات الأخيرة، يتجمع أشخاص أكثر فأكثر أمام قصر العدل لمساندة القاضي البيطار. وتعلّق غيدة فرنجية بالقول: "إنها لحظة مهمة جداً لثقافتنا، ولمستقبل القضاء، ولمستقبل نظامنا السياسي، والقرارات التي سيجري اتخاذها الآن ستكون لها تبعات على المستقبل". إلا أن العراقيل أمام التحقيق لا تزال كبيرة وفق ملحم خلف: "استولى السياسيون اللبنانيون على التحقيق الذي وقع للأسف في استقطاب حاد. بالتوازي، أفضت الاختلالات القضائية والسياسية العديدة إلى إبطائه"، كما يوضح لـ"أوريان 21".

تتعالى الأصوات مطالبة بتحقيق دولي رغم أنه أظهر محدوديته في الماضي

عدد من الأشخاص المتهمين منذ انفجار المرفأ هم مسؤولون رفيعون جرى إخطارهم مسبقاً بالخطر الذي يشكله تخزين نيترات الأمونيوم قرب مناطق سكنية في وسط العاصمة. بالنسبة إلى خلف، إزاء عرقلة التحقيق "يجب القول للبنانيين إن بلدهم في حاجة إلى قضاء، لأنه، بلا قضاء، لا يمكننا التقدم". متجاوزاً لبنان، يدعو خلف إلى "وعي الشعوب".

العائلات تطالب بتحقيق دولي

رغم خيبات القاضي البيطار، فإن عائلات الضحايا تواصل التعبئة في لبنان، وكذلك في الخارج. فأثناء زيارته إلى باريس، شدد بول نجار الذي فقد طفلته ذات السنوات الثلاث ونصف السنة جراء الانفجار، مدعوماً بشبكة "مدى" وأيضاً تجمّع "لِحَقّي"، على تبعات ثقافة الإفلات من العقاب في لبنان. "من المهم للبنانيين كافة، ولكافة الدول الشريكة أيضاً معرفة ما جرى حقيقةً. نضالنا من أجل العدالة هو صالح أيضاً لآخرين في لبنان، مثل المودعين الذين جرى تجميد أموالهم ولم يعد لهم أي سبيل انتصاف".

رغم أن التحقيقات الدولية أظهرت محدوديتها في الماضي، على غرار المحكمة الخاصة بلبنان بشأن التفجير الذي تسبّب في مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في عام 2005، فإن المزيد من الأصوات تتعالى مطالبة بتحقيق دولي تحت إشراف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. رُفع طلب أول في يونيو/حزيران 2021 من قبل تحالف لأكثر من 100 منظمة لبنانية ودولية، لكنه لم يفض إلى نتيجة. "دخل التحقيق الوطني الآن في طور الخمود، لهذا نحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى دعم المجتمع الدولي ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة"، تؤكّد ميراي خوري. وتضيف: "سيسجّل التاريخ أي مسؤولين خدموا العدالة والحقيقة وأيهم لم يفعل".

بالانتظار، يعاني تحقيق القاضي بيطار من عرقلة كبيرة. بعد أكثر من عامين ونصف على الصدمة، لم يحاسب أحد بعد.

يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar