رئيس الشيشان وزعيم "فاغنر": تهديدات مبطنة تنبش صراعات دفينة في الجبهة الروسية

07 يونيو 2023
يملك الرجلان قوات محورية ضمن آلة الحرب الروسية (Getty)
+ الخط -

في الوقت الذي تراكم فيه القوات الأوكرانية زخم مصادرها تحضيرًا للهجوم المضاد الموعود، بما في ذلك كتائب من المتمردين الروس والشيشان، ومن ورائهم جميعًا جبهة غربية موحّدة ووثيقة التنسيق، تظهر الجبهة الروسية المزيد من التصدعات البينية، ومنها ما طفا على السطح، في الأيام الأخيرة، من عداوة ظلّت كامنة بين قائد مليشيا "فاغنر"، يفغيني بريغوجين، وزعيم الشيشان، رمضان قديروف؛ ولكليهما قوات محوريّة ضمن آلة الحرب التي تديرها موسكو في أوكرانيا.

"حدد لنا الموقع والوقت وسنقابلك"

نشب الخلاف حينما انتقد بريغوجين، نهاية الشهر الماضي، إعلان قديروف نشر "كتيبة أحمد" الشيشانية في إقليم دونباس، قائلًا إنها– أي قوات قديروف المسمّاة على اسم والده أحمد قديروف- بالكاد "تستطيع تأمين بعض المواقع، وليس الإقليم بأكمله".

استثار هذا التصريح القادة المقرّبين من قديروف، ومنهم رئيس برلمان الشيشان، محمود داودوف، الذي ظهر في مقطع فيديو في اليوم التالي يتهم فيه بريغوجين بـ"إثارة الذعر" داخل روسيا، ثم قال، مخاطبًا إياه باسم التصغير: "بريغي، لو قلت هذه الكلمات في الحرب العالمية الثانية لوجدت نفسك واقفًا ووجهك إلى الحائط"، في إشارة إلى إعدامه.

ودعا المسؤول الشيشاني زعيم فاغنر إلى عدم نسيان "من له الفضل في أن له جيشًا خاصًّا وطائرات ومروحيات"، مضيفًا: "إذا استمررت على هذا المنوال، فلن يأتي من ذلك أي خير؛ أعطنا الموقع وحدد الوقت، وسنقابلك ونناقش هذا الأمر رجلًا لرجل".

نشر المؤسس المشارك لمليشيا "فاغنر" تعليقًا على "تليغرام"، خاطب فيه داودوف بالقول: "نحن دائمًا على استعداد للحديث رجلًا لرجل، لا سيما أننا نعرف بعضنا منذ حربي الشيشان الأولى والثانية

في اليوم ذاته، دخل شخص آخر من أوثق المقرّبين لقديروف على خط السجال، وهو النائب عن الشيشان في مجلس الدوما الروسي، آدم ديليمخانوف. الأخير دعا بريغوجين أيضًا إلى "مقابلة وجهًا لوجه"، وقال معقّبًا على كلامه، في ما انطوى على نبرة تهديد: "إن كنت لا تفهم دور كتيبة أحمد في الخطوط الأمامية؛ فبوسعك أن تتواصل معنا في أي وقت... قل لنا متى وماذا وأين، وسنراك؛ سنحل مشاكلنا وجهًا لوجه". 

تعريض بحرب الشيشان

هذه التصريحات استدعت ردًّا من شخصية بقيت في الظلّ على امتداد أيام الحرب، وهو شريك بريغوجين في تأسيس "فاغنر"، ديميتري يوتكين. نشر هذا الأخير تعليقًا على قناة Grey Zone، التابعة لـ"فاغنر"، مرفقًا بصورة قديمة له بدا أنها من فترة حرب الشيشان الثانية، ثم تجاوز التلميح إلى التصريح حين خاطب داودوف بالقول: "نحن دائمًا على استعداد للحديث رجلًا لرجل، لا سيما أننا نعرف بعضنا منذ حربي الشيشان الأولى والثانية"، منبّهًا إياه إلى أن "فاغنر القوة الأولى في ترتيب الشركات العسكرية الخاصة، ومعروفة عبر العالم".

ولم تكن "فاغنر" قد تأسست بعد في حربي الشيشان، إلا أن يوتكين قاتل خلالهما ضمن صفوف الجيش الروسي. كانت قوات قديروف ضمن ألدّ خصومه في حرب التسعينيات، وقد حمل حاكم الشيشان الحالي السلاح في صفوفها إلى جانب والده أحمد قديروف، قبل أن يبدّل الأخير ولاءاته في الجولة اللاحقة، مطلع الألفية الثانية، ويخلفه ابنه متعهّدًا بـ"سحق الانفصاليين حتى آخر واحد"، كما قال في تصريح سابق.

على هذا النحو، عرف يوتكين قديروف عدوًّا وحليفًا بين الحربين، وظلّت العلاقة بين الطرفين، منذ نشأتها، قابلة لتدور على المقلبين، لا سيما بالنسبة للقوميين الروس المتشددين. أحد هؤلاء القوميين كان وزير الدفاع السابق في "جمهورية دونيتسك" الانفصالية، إيغور جيركين، الذي انضمّ إلى المراشقة الكلامية مدافعًا عن قيادات "فاغنر" التي "قاتلت في الشيشان ضمن وحدات القوات الخاصة الروسية، بينما ديليمكانوف وداودوف كانا في الجانب الآخر"، على حد تعبيره.

لكن هذا الاصطفاف السريع، ما بين رجال قديروف في الشيشان وحلفاء "فاغنر" من المليشيات القومية، يؤشر إلى صراعات دفينة في الجبهة الروسية، بذاكرة حرب الشيشان، وبما يتحقق اليوم على الأرض، بينما ترى المليشيات المقاتلة إلى جانب الروس، وبعضها بأجندات قومية متطرفية ومعادية للأقليات العرقية، القوات الشيشانية وهي تراكم الصيت على أرضية حرب أوكرانيا.

تراجع قائد "فاغنر"

لكن بعد يومين من التهديدات الشخصية ونبش ضغائن الماضي، بادر زعيم فاغنر ليعلن، من طرف واحد، أن الخلاف مع زعيم الشيشان قد "سوّي" بعد اتصال من قديروف؛ رغم أن الأخير وبطانته لم يصرّحوا بجديد في هذا السياق حتى اللحظة.

رغم ذلك، حملت الرسالة التصالحية لبريغوجين أيضًا نبرة احتجاج وتهديد؛ إذ قال إنه كان ملزمًا بالصمت احترامًا لمقاربة الدولة حيال "الفتنة ما بين الإثنيات"، مردفًا: "في روسيا الأمور على هذا النحو؛ في وسع الأقليات القومية الحديث علنًا ضد الروس، لكن الروس لا يمكنهم أن يفعلوا هذا من دون أن يفلتوا من العقاب". ولم يجد رجل الأعمال الروسي الصاخب حرجًا في القول إنه "في حالة اندلاع حرب بين فاغنر وكتائب أحمد، سيكون المنتصر معروفًا للجميع، لكن كثيرًا من الدماء سيراق".

مع أن زعيم "فاغنر" اعتاد على تلطيخ صورة العسكر الروس أمام الملأ، فإن اعتقال كولونيل في الجيش من قبل مليشيا غير نظامية يبدو غير مسبوق في سياق هذه الحرب، ومشهدا استرجاعيا من ساحات الحروب الأهلية

لكن اللافت أن بريغوجين، في انكفائه عن المسؤولين الشيشانيين، حوّل سهام النقد صوب الكرملين، الذي اتهم "رؤوسًا كبيرة" فيه بـ"تأجيج النزاع" بينه وبين قديروف. ثم بعد يوم من ذلك، وفي خضم تركيز نيرانه صوب قيادة الجيش، نشر بريغوجين مقطع فيديو لكولونيل روسي، اعتقله مقاتلو "فاغنر"، يدلي باعترافات عن أوامر أصدرها لجنوده بزرع ألغام في طريق انسحاب المليشيا من باخموت. وجد مقاتلو بريغوجين أنفسهم، وفق المنشور، "تحت نيران جنود روس تموقعوا في المكان فردوا بالمثل"؛ ما يعني أن قتالا داخل القتال اندلع بالفعل، وإن لفترة قصيرة.

هذا التطور، بدوره، يضيف إلى موضوعة الصدوع التي تتجذّر يومًا بعد يوم في الجبهة الروسية؛ فمع أن زعيم "فاغنر" اعتاد على تلطيخ صورة العسكر الروس أمام الملأ، فإن اعتقال كولونيل في الجيش من قبل مليشيا غير نظامية يبدو غير مسبوق في سياق هذه الحرب، ومشهدا استرجاعيا من ساحات الحروب الأهلية.

ما وراء التراجع السريع

بالنظر إلى سيل تهجّماته اللاذعة على أصحاب القرار في موسكو، لا يبدو زعيم "فاغنر" ممن يتحرّون الدبلوماسية؛ ما يضع مسارعته لتجنب المواجهة مع زعيم الشيشان تحت السؤال. ولعلّ التفسير كامن في ما لمّح إليه الرجل عن "رؤوس" في الكرملين تحاول إذكاء الخصومة بين الطرفين لمصلحة ذاتية، إذ قد يُقرأ كلامه على وجهين: أن مسؤولين في الكرملين أوعزوا لرجال قديروف بالرد، كما يرجّح الخبير العسكري الروسي يوري فيديروف في حديث لموقع currenttimes المعارض للكرملين، أو أن بريغوجين تجنّب إضافة أسماء جديدة إلى قائمة عداواته، وأراد حصرها في مؤسسة صناعة القرار داخل موسكو، وتحديدًا وزارة الدفاع، كما يستنتج تقرير لـ"المؤسسة الأميركية لدراسات الحرب".

طوال الأشهر الماضية، لم تثر التصريحات المدوّية لبريغوجين في الكرملين ووزارة الدفاع إلا الصمت المطلق؛ لتكون القوات الشيشانية، وهي جزء من القوات النظامية، أوّل فصيل في الجيش يدخل الحرب الكلامية مع زعيم "فاغنر"

في حاصل القراءتين، قد يعزى انكفاء بريغوجين لاستشعاره أن شرارة أمر ما تصعب السيطرة عليه قد تتولد من عداوة خصم كالكتائب الشيشانية، يشبهه في سمات كثيرة -من حيث إنه لا مركزي، غير دبلوماسي، يقاتل بعقلية الجماعة- لكنه في الوقت ذاته يظلّ شديد الولاء للكرملين. في الواقع، فإن أحد مكامن الدافع لدى بريغوجين في توبيخه المعلن لوزير الدفاع وحاشيته، كما تطرح "مؤسسة دراسات الحرب" الأميركية، هو بحثه عن صدى في الفضاء العام، وعن مراكمة النفوذ استشرافًا لمستقبل ما بعد الحرب، عبر ترديد ما يضمره الجمهور من نقمة على أداء قيادته منذ ساعات الغزو الأولى، مدفوعًا كذلك بما حققه التابعون له من المرتزقة في الميدان. ضمن هذا المسعى البعيد، لا يريد بريغوجين شخصًا مثل قديروف ضمن قائمة الأعداء مستقبلًا.

أبعد من خلاف عابر

في ثنايا هذه الزوبعة الكلامية، بكل ما تضمّنته من استعراض للقوة وتلويح بالمواجهة، ما هو أبعد من خلاف عابر، فهي أوّل منازعة على الملأ بين شخصيّتين عسكريّتين في الصفوف العليا لآلة الحرب الروسية. طوال الأشهر الماضية، لم تثر التصريحات المدوّية لبريغوجين في الكرملين ووزارة الدفاع إلا الصمت المطلق؛ لتكون القوات الشيشانية، وهي جزء من القوات النظامية، أوّل فصيل في الجيش يدخل الحرب الكلامية مع زعيم "فاغنر".

في حديثه الذي أشعل الخلاف، كان قائد المليشيا التي استوفت هجوم باخموت، ثم انتهت إلى الانسحاب منها وتسليمها للقوات الشيشانية بعد اتهام الجيش بحبس الذخيرة عنها، يعلّق على تسليم منطقة محتلة ثانية –إقليم دونباس- لقوات شيشانية أخرى، هي "كتيبة أحمد"، المبنيّة أساسًا على شاكلة فرق الحرس الجمهوري، بعقيدة تتركّز على الأمن الداخلي- من قمع التمرّدات وأعمال الشغب إلى تأمين رئيس الشيشان شخصيًّا. ضمن هذا المعطى، قد يكون تعليق بريغوجين ذا وجاهة، إذ لا يبدو إرسال فرقة أمن داخلي إلى خط الجبهة الأمامي فكرة جيّدة بالمفاهيم العسكرية. لكن الكتيبة، والتي وسّعت أثناء الحرب إلى أربع فرق (شرق، غرب، شمال، جنوب)، انخرطت بالفعل سابقًا في القتال بإقليم الدونباس، وخبرت بذلك ظروف الميدان، عدا عن أن ما درّبت عليه من تكتيكات حرب المدن، و"إدارة حرب عصابات ضد حركات التمرد في الغابات الشاسعة"، بتعبير فيديروف، يمنحها أهلية لهذه الحرب بالذات.

يدفع هذا الاستشكال إلى قراءة مختلفة لدوافع بريغوجين، ومنها ما يشير إليه تقرير لـ"المؤسسة الأميركية لدراسة الحرب" من تنافس كامن بين الرجلين على صورة البطولة في الفضاء العام. بانسحاب "فاغنر" من باخموت لفائدة المقاتلين الشيشان، فقد تركوا الساحة التي قاتلوا فيها بضراوة لمستفيد آخر، قد يصبح شريكًا في "صورة النصر". ربما يفسّر هذا تصويب بريغوجين، لأول مرة في الحرب، على كلام لقديروف، بعد 5 أيام فقط من تسليم باخموت لقواته؛ رغم أن زعيم الشيشان أصدر إعلانات مماثلة عن نشر "كتيبة أحمد" في عدة مناسبات سابقة. أعاد بريغوجين الكرّة غداة خطابه التصالحي مع قديروف، حين قال إن القوات الأوكرانية استردّت سريعًا أجزاء من باخموت، واصفًا ذلك بأنه "عار"؛ لكن دون أن يسمّي الكتائب الشيشانية.

لكن حتى ما قبل تسليم باخموت لمقاتلي الشيشان، كانت العلاقة بين بريغوجين وقديروف، كما يصفها فيديروف، "معقّدة ومتقلّبة" بين التحالف والعداوة المضمرة. من بين المشتركات القليلة: السمعة الجيّدة التي سطّرها الرجلان في المعارك، وأيضًا، بحسب المحلل العسكري الروسي، الاستياء المشترك حيال أداء القيادة العسكرية؛ الفارق أن قديروف ما زال يكظم الأمر، والاستثناء الوحيد كان بعد الانسحاب من خاركيف، حين لام القيادات العسكرية على "أخطاء فادحة ارتكبتها". تحت تلك المشتركات، نشأت روابط بين الرجلين، ولكن أيضًا تنافس مستتر في تسطير السمعة. التقى قديروف زعيم "فاغنر" مرّة واحدة أثناء الحرب، حينما استقبله بغروزني في فبراير/شباط الفائت. قال الزعيم الشيشاني كلّ ما يروق لمسامع بريغوجين من مديح لأداء "فاغنر" العسكري؛ قبل أن يفصح عن نيته تأسيس شركة عسكرية خاصة على غرارها مستقبلًا.

المساهمون