- تعترف الأحداث والتصريحات الإسرائيلية بوقوع "نكبة ثانية"، مما يشير إلى استمرارية النكبة الأولى وتجديدها من خلال سياسات تعزز فكرة التفوق اليهودي.
- تؤدي السياسات الإسرائيلية إلى تعميق الصراع وإبعاد إمكانية السلام، مع تأثير مستمر للنكبة على السياسة الإسرائيلية والمشهد الفلسطيني، مما يكرس النكبة كجزء من الهوية الإسرائيلية.
منذ اليوم الأول لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلنتها إسرائيل حرباً "وجودية"، في محاولة لتبرير عمليات التهجير والقتل الجماعية والاعتقالات الوحشية وانتهاك حقوق الإنسان. وتجّلى ذلك بالوقائع على الأرض، وبتصريحات عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين بأن ما يحدث في غزة "نكبة ثانية". وبالتزامن مع مرور 76 عاماً على ذكرى النكبة الفلسطينية المستمرة منذ عام 1948، تثبت دولة الاحتلال الإسرائيلي أنها تكتب فصولاً جديدة من النكبة الفلسطينية، تقودها واحدة من أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً، بفكر سياسي متأصل وتخطيط معلن، ومسؤولين سياسيين وعسكريين، لم يعودوا حتى ينكرون النكبة، ولكنهم يحاولون تبريرها. كما يجاهر جيش الاحتلال، الذي بدأ المستوطنون يتغلغلون فيه أكثر، بعمليات القتل والتدمير والانتقام.
وفي ذكرى النكبة فإن الفصول الجديدة من النكبة الفلسطينية لا تُكتب في قطاع غزة وحده، وإنما في الضفة الغربية والقدس المحتلة والداخل الفلسطيني، من خلال القتل والملاحقات والاعتقالات والتضييق على الأسرى والتنكيل بهم، وتعزيز الاستيطان، وقمع الحريات، وهدم منازل الفلسطينيين، وغير ذلك من المخططات. أما الشتات الفلسطيني وحلم العودة، فيبقيان في قائمة الممنوعات الإسرائيلية، فمن يسعَ إلى تهجير الفلسطينيين الموجودين اليوم على أراضيهم، لا يمكن أن يقبل بحق العودة للاجئين المتواجدين خارج وطنهم.
جرائم تعيد أجواء ذكرى النكبة
يصرّ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على مواصلة الحرب في غزة من دون اكتراث لعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى الفلسطينيين، وحتى من دون اكتراث لمقتل عدد من المحتجزين الإسرائيليين في القطاع، واتهام أوساط إسرائيلية كثيرة له بتفضيل مصالحه الشخصية على المصالح الإسرائيلية، وتجلّى ذلك بوصفه بالحثالة، لدى إلقائه كلمة في مراسم ذكرى قتلى حروب إسرائيل أمس الأول الاثنين. وفي المناسبة نفسها قال وزير الأمن يوآف غالانت إن الحرب على غزة تحدد مستقبل إسرائيل للسنوات المقبلة. وعليه تواصل إسرائيل عمليات التطهير العرقي والاستخدام المكثّف للقوة والسلاح وعدم الاكتراث لأي تحركات ومطالبات دولية لوقف الحرب، كما لم تردعها القضايا المرفوعة ضدها في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وفي محكمة العدل الدولية.
تواصل إسرائيل عمليات التطهير العرقي والاستخدام المكثّف للقوة والسلاح وعدم الاكتراث لأي تحركات ومطالبات دولية لوقف الحرب
وبالإضافة إلى أجندات نتنياهو الشخصية وحساباته السياسية وآرائه المتطرفة، فإنه يبقى رهينة كذلك لأجندات شركائه المتطرفين في ائتلافه الحاكم، والذين سبق أن دين جزء منهم سابقاً، بالانتماء إلى حركات إرهابية إسرائيلية باتت محظورة. وتضم الحكومة الحالية العديد من المتطرفين، كما يتخذ منهم نتنياهو أحياناً ذريعة للتهرب من بعض الالتزامات والمطالبات الدولية، حتى من قبل الولايات المتحدة بشأن الحرب. أكثر من هذا، بدأ نتنياهو وحلفاؤه في الائتلاف، يزيدون في الأيام الأخيرة جرعة الانتقادات للإدارة الأميركية، على الرغم من الدور الأميركي الداعم في الحرب الحالية عسكرياً ودبلوماسياً، والجسر الجوي الذي لم ينقطع عن مد إسرائيل بالأسلحة التي ترتكب فيها مجازرها في غزة.
التفوق اليهودي وأربعة أنواع من البشر
وفي ذكرى النكبة قد يعكس مقال مطوّل كتبه في صحيفة يديعوت أحرونوت، المؤرخ الإسرائيلي يوفال ناح هراري، أمس الأول الاثنين، بالتزامن مع إحياء إسرائيل ذكرى قتلاها، واحتفالها بمرور 76 عاماً على إقامتها، واستمرار حرب الإبادة على قطاع غزة، وهي أطول حرب تخوضها منذ قيامها على حساب تهجير الفلسطينيين، بعضاً مما يجول في فكر الإسرائيليين، خصوصاً زعاماتهم وحكومتهم الحالية على وجه الخصوص. وأوضح هراري أن "المبدأ الأساسي الأهم في عقيدة الحرب، يقول إن الحرب هي فقط أداة عسكرية من أجل تحقيق الأهداف السياسية. وعليه في حال عدم تحديد صحيح للأهداف السياسية للحرب فإن إسرائيل قد تكسب جميع المعارك وتخسر الحرب".
وباتت الحرب تعكس جزءاً مما يجول في خاطر المسؤولين الإسرائيليين، وبالتالي تعميق ذكرى النكبة وما تخطط له إسرائيل، وكيف تعرّف نفسها. وأشار المؤرخ الإسرائيلي إلى وجود رابط بين السياسة الإسرائيلية وتعريف الإسرائيليين لأنفسهم "ولدولة إسرائيل وكذلك لليهودية. وهناك كما هو معروف العديد من التعريفات، وصراع منذ سنوات حول شخصية إسرائيل"، مضيفاً أنه "لا يمكن الانتصار على حركة حماس وحزب الله وإيران، من دون أن تعرّف إسرائيل نفسها، من هي وما هو موقعها في العالم".
ويدور الصراع الإسرائيلي برأي هراري، حول عقيدتين أساسيتين، فمن جهة هناك الصهيونية التي تدّعي أن اليهود يشكّلون قومية، ولذلك لليهود ليس فقط حقوق إنسان فردية وإنما أيضاً حق قومي بالتعريف، فيما ترى أوساط عديدة في العالم، بنظريات الصهيونية تكريساً للفوقية اليهودية على البشر الآخرين، وأنها تسلب حقوق الفلسطينيين وحتى وجودهم. في حين تنفي أوساط إسرائيلية ذلك، وتعتقد أنه يمكن للمرء أن يكون صهيونياً وأن يعترف بحقوق الفلسطينيين في العيش في أمان وكرامة، ويزعم هذا النهج أن الدليل على ذلك موافقة الصهيونية عام 1947 على قرار التقسيم. أما العقيدة الثانية، التي تنافس اليوم في إسرائيل، فهي "أيديولوجيا الفوقية اليهودية"، ويقودها بحسب هراري، "متدينون متعصبون، يؤمنون بأن اليهود هم فوق باقي البشر ولذلك لا بد من منح اليهود حقوقاً أكبر على حساب حقوق الآخرين".
فكر الفوقية اليهودية يحظى بدعم من قبل العديد من الأعضاء في ائتلاف نتنياهو
ورأى الكاتب أن فكر الفوقية اليهودية، لا يحظى فقط بدعم حزب عوتسما يهوديت (القوة اليهودية بزعامة إيتمار بن غفير)، لكن أيضاً من قبل العديد من الأعضاء الآخرين في ائتلاف نتنياهو، وحتى من قبل نتنياهو نفسه، وأن الائتلاف الحالي يحمل شعار "من النهر إلى البحر"، فيما الخطوط العريضة لحكومة نتنياهو، بأن "للشعب اليهودي حقاً حصرياً وغير قابل للنقاش في جميع مناطق أرض إسرائيل".
وينفي نتنياهو والوزيران إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وحلفاؤهم، وفق المؤرخ الإسرائيلي، وجود الشعب الفلسطيني ويتنكرون لحقوقه، "ويوجد أربعة أنواع من البشر في رؤيتهم لدولة واحدة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، تهيمن عليها أيديولوجية التفوّق اليهودي. الأوائل هم اليهود الكاملون وحقوقهم كاملة، وفي المكان الثاني اليهود الذين نسوا ماذا يعني أن تكون يهودياً، وتكون حقوقهم أقل، وفي المكان الثالث الفلسطينيون من مواطني إسرائيل الذين سيحصلون على بعض الحقوق، وفي المكانة الرابعة المتدنّية، ملايين الفلسطينيين الذين سيكونون من دون مواطنة إسرائيلية ومن دون حقوق".
تأثير النكبة مستمر على السياسة الإسرائيلية
أواخر العام 2023، نُشر بحث إسرائيلي جديد، شرح كيف تَواصل تأثير النكبة على تشكيل السياسة الإسرائيلية. وكان لافتاً في حينه ما خلص إليه البحث الذي جاء بمبادرة من محاضرين في "الجامعة العبرية"، والذي توصل إلى أن وجود أنقاض للقرى الفلسطينية التي هُجّرت عام 1948، يزيد من احتمال تصويت المستوطنين الذين يسكنون في المستوطنات المقامة على أنقاض تلك القرى أو بجوارها، لليمين واليمين المتطرّف. وفحص البحث ما حدث في 840 مستوطنة إسرائيلية على مدار 22 جولة من الانتخابات الإسرائيلية. ووجدت الدراسة أنه كلما كانت تلك الأنقاض بادية أكثر للعين، يزداد بذلك احتمال التصويت لليمين، وكانت خلاصتها الأساسية أن شبح النكبة يواصل تشكيل الخريطة السياسية الإسرائيلية حتى بعد 75 سنة منذ حدوثها. وهذا قد يفسر أيضاً استمرار مخططات النكبة الفلسطينية بعد 76 عاماً عليها، ووجود حكومة إسرائيلية من الأكثر تطرفاً.
وبعد انتخابات الكنيست السابقة، كتب بعض المعلقين الإسرائيليين أن الحكومة الجديدة قد تكون "حكومة نكبة"، بعد الحديث عن منح سموتريتش وبن غفير، وكلاهما من داعمي النكبة على نحو علني وصريح، حقائب وزارية مهمة في الحكومة، وهو ما ثبت لاحقاً من خلال عدة ممارسات، ليس في حرب غزة فحسب، ولكن أيضاً بالمصادقة على بناء آلاف الوحدات الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس المحتلتين. كما ثبت من تصرف المستوطنين بحرية تامة، والاعتداء على الفلسطينيين تحت غطاء رسمي، وقتل عدد منهم واحراق بيوتهم وممتلكاتهم، إضافة إلى إقامة بؤر استيطانية جديدة، وغير ذلك من مخططات وقرارات وعمليات تكرّس النكبة وتزيد معاناة الفلسطيني ومحاولات تهجيره ومصادرة أرضه، والتنكيل بالأسرى الفلسطينيين واحتجازهم في ظروف غير إنسانية ومنعهم من أبسط الحقوق ما تسبب باستشهاد عدد منهم.
مليشيات وعصابات في الجيش الإسرائيلي
في ذكرى النكبة الـ76 تعود العصابات الصهيونية، بتسميات مختلفة، من قبيل "الهاغاناه" و"الإرغون" و"بلماح"، وغيرها من المليشيات التي قتلت الفلسطينيين قبل وبعد النكبة الفلسطينية وارتكبت أفظع المجازر، إلى جيش الاحتلال. فجيش الاحتلال الذي تشكّل من تلك العصابات بعد النكبة، ما زال يقوم على الكثير من العصابات، منها عصابات المستوطنين، الذين أشارت تقارير إسرائيلية عديدة في الآونة الأخيرة إلى تنامي حجمهم وتأثيرهم داخل الجيش الإسرائيلي، بل وتسبّبت الحرب الحالية بمقتل عدد كبير منهم، وهو ما دفع ممثلي التيار الديني ـ القومي في إسرائيل، مثل حزب القوة اليهودية بقيادة بن غفير، وحزب الصهيونية الدينية بقيادة سموتريتش، للترويج إلى أن عدداً كبيراً من قتلى الجيش في الوحدات القتالية هو من أتباع هذا التيار، لاستثمار ذلك في الصراعات الإسرائيلية الداخلية. ويمعن هؤلاء في قتل الفلسطينيين وتهجيرهم ويحاولون إبراز دورهم، على الرغم من مساهمة جنود الاحتلال على مختلف انتماءاتهم بعمليات الإبادة، بقرار سياسي.
تنامي حجم وتأثير عصابات المستوطنين داخل الجيش الإسرائيلي
رسائل للفلسطينيين واعتراف بالنكبة
تحاول إسرائيل من خلال حرب الإبادة الحالية في غزة، وفي ذكرى النكبة الـ76، إيصال رسائل للفلسطينيين مشبعة بالدم، خلاصتها أن المقاومة تجلب عليكم المصائب، في محاولة جديدة لإخضاع الشعب الصامد منذ 76 عاماً، بعد فشل محاولاتها السابقة على مدار عقود. وتفعل ذلك منذ اليوم الأول للحرب باستخدام أسلحة فتاكة وقنابل ومتفجرات بكميات غير مسبوقة، مستهدفة المدنيين والمؤسسات الحيوية من مستشفيات وغيرها. وكل ذلك بدافع الانتقام ومحاولة استعادة قوة الردع التي تضررت على نحو كبير في عملية "طوفان الأقصى" (عملية المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر الماضي). وتواصل إسرائيل محاولاتها كيّ وعي الفلسطينيين وتبديد أي شعور بالنصر، من خلال جعل الفلسطيني يغرق في معاناته على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي. وكما كان عليه الحال من ارتكاب مجازر جماعية عام 1948 وما بعده، تم اكتشاف عدة مجازر ومقابر جماعية في قطاع غزة في هذه الحرب أيضاً، وهو مشهد يعيد نفسه. ليس هذا فحسب، إذ يحمل استخدام بعض الوزراء الإسرائيليين مصطلح "نكبة ثانية" اعترافاً ضمنياً من قبل إسرائيل بوجود نكبة أولى، وإن كان ما يجري حالياً هو فصول جديدة من النكبة المستمرة منذ 76 عاماً، وتكشّف بعض أوجه الطبيعة الإجرامية المتأصلة في الفكر الإسرائيلي منذ عام 1948 وحتى اليوم.
وتحدّث وزراء إسرائيليون على الملأ، عن نكبة ثانية بالنسبة للفلسطينيين أو بتعبير آخر "نكبة غزة 2023"، مثلما قال وزير الزراعة عضو المجلس الوزاري للشؤون السياسية والأمنية (الكابنيت) آفي ديختر، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في لقاء مع القناة 12 العبرية. وأوضح في حينه "نحن ندفع نحو نكبة غزة، فهذه نكبة غزة، ومن الناحية العملياتية لا توجد إمكانية لإدارة الحرب كما يريد الجيش الإسرائيلي، فيما تتواجد أعداد كبيرة من السكان بين الدبابات والجنود". وحاول بذلك تبرير تهجير الفلسطينيين. وتزامنت تلك التصريحات في بداية الحرب مع تهجير مئات آلاف الغزيين من شمال القطاع إلى جنوبه وهي المشاهد التي أثارت ردود فعل واسعة حول العالم في حينه.
ولم يكن ديختر الوحيد الذي حاول تبرير النكبة وتجديدها من بين أقطاب اليمين الإسرائيلي، بل إن آخرين سبقوه إلى ذلك حتى قبل أحداث 7 أكتوبر الماضي وقبل تشكيل الحكومة الحالية. وقال وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي يسرائيل كاتس، في يونيو/حزيران 2022 في خطاب له في الكنيست قبل أن يصبح وزيراً، رداً على قيام طلاب من فلسطينيي الداخل برفع العلم الفلسطيني في الجامعات الإسرائيلية، في المناسبات الوطنية: "تذكّروا 1948. تذكّروا حرب الاستقلال الخاصة بنا وتذكّروا نكبتكم. واسألوا الكبار لديكم، أجدادكم وجداتكم، وسيشرحون لكم أنه في نهاية المطاف اليهود يستيقظون ويعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم وعن فكرة الدولة اليهودية".
وتوالت مثل هذه التصريحات في ذلك الوقت، من قبل مسؤولين إسرائيليين آخرين خصوصاً في حزب الليكود، ومن بينهم وزير الأمن الحالي يوآف غالانت الذي كان عضو كنيست، إذ اعتبر أنه "في حال عاد العرب إلى خطأ 1948 فإن اليهود سيُخرجون أيديهم من جيوبهم، والأثمان ستكون كبيرة". وفي بداية الحرب الحالية قال النائب في الكنيست نيسيم فاتوري "أحرقوا غزة الآن". وعلى مدار عقود حاولت إسرائيل نفي مسؤوليتها عن تهجير الفلسطينيين في عام النكبة وما بعده، لكن في ظل الوقائع على الأرض، وكتابة حتى مؤرخين إسرائيليين عن النكبة، وتغيّر عوامل كثيرة في العالم وتعزيز الرواية الفلسطينية، تغيّر التكتيك الإسرائيلي أيضاً، وبدلاً من إنكار النكبة بدأت محاولات لتبريرها على أنها أمر لا بد منه، وهو ما يحدث الآن أيضاً في الحرب على غزة.
ما يدعم فكرة النكبة والتهجير أيضاً، الكشف في بدايات الحرب، عن ورقة لوزارة الاستخبارات الإسرائيلية، توصي بتهجير الغزيين إلى سيناء ومنع عودتهم، في حين اعتبر سموتريتش في حينه أن "الهجرة الطوعية هي الحل الإنساني الذي سيضع حداً لمعاناة اليهود والعرب". يضاف إلى ذلك، ما صرّح به الوزير عميحاي الياهو في بداية الحرب بأن "إلقاء قنبلة نووية على غزة هو الحل للمشكلة". كما نادى بن غفير بالترانسفير. ويلتقي كل هذا، مع ما كان عام 1948 حين كانت النكبة عبارة عن مخطط منظم مسبقاً، لتنفيذ التطهير العرقي الذي خططت له الصهيونية منذ اليوم الأول. ولكن في حين حاولت إسرائيل نفيه وقتئذ، فإن تصريحات المسؤولين الحاليين تتحدث عنها على الملأ، فيما ينفّذ جيش الاحتلال منذ بداية الحرب الحالية في غزة، سياسة واضحة وعلنية للتهجير كجزء من الحرب، بذريعة القضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية.
لا يريد الجيش الإسرائيلي الإبقاء على أي مكان في غزة قابلاً للحياة، وبالتالي دفع الفلسطينيين إلى الهجرة
وفي ذكرى النكبة الـ76، عاد إلى المشهد إجراء قديم جديد، هو إلقاء المناشير لمطالبة السكان بالتحرك، في محاولة للزعم بأن الجيش يكترث للمدنيين، في حين قد يقتلهم في أماكن أخرى ينزحون إليها، لعدم وجود أي مكان آمن في غزة. كما لم يسلم موظفو المنظمات الإنسانية من القصف والقتل، وليس أهالي غزة فحسب. وبأوامر من المستوى السياسي لا يريد الجيش الإسرائيلي الإبقاء على أي مكان في قطاع غزة قابلا للحياة، وبالتالي دفع الفلسطينيين إلى الهجرة، حتى أنه دمّر المباني التي لها رمزية، من بينها البرلمان الفلسطيني في غزة وكذلك بعض الأنصاب التذكارية والمساجد والكنائس والجامعات. وفي أكثر من مرة، تحدث مسؤولون ومعلّقون إسرائيليون عن إمكانية إعادة الحكم العسكري إلى قطاع غزة. وعززوا نظريتهم برفض حكومة نتنياهو بقاء "حماس"، وكذلك رفضها استلام السلطة الفلسطينية لقطاع غزة بعد الحرب، وخيارات أخرى، عدا عن تهرب نتنياهو أصلاً من قرارات بشأن ما تسميه إسرائيل "اليوم التالي" للحرب على غزة.
القوة كعامل للبقاء
وفي ذكرى النكبة تبرز ورقة بحثية أعدها مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في الآونة الأخيرة، أشار إلى القوة كعامل من عوامل بقاء إسرائيل، وهو ما قد يعكس الذهنية الإسرائيلية في حرب غزة أيضاً. وبحسب الورقة فإن "وجود دولة إسرائيل في الشرق الأوسط ممكن بفضل قوتها. إن تعزيز وتحصين موقع القوة هذا، هو ما يسمح لدولة إسرائيل بالسعي من أجل السلام، وإدارة المخاطر في مواجهة التهديدات وضرب العدو بتصميم وحزم، إذا تجرأ على تعريض أمنها للخطر. ونحن الآن أمام مفترق طرق تاريخي يثبت لنا مدى أهمية وحيوية هذه المكانة".
لكن الورقة أشارت في الوقت نفسه، إلى أن "الفشل والصدمة في السابع من أكتوبر أضرا بشعور مواطني دولة إسرائيل بالأمن، وسببا ارتباكاً عميقاً لدى الكثيرين. وهذا الواقع قد يدفع الحكومة الإسرائيلية إلى تبنّي سياسة أمنية قلقة، وهي سياسة تمليها الصدمة وليس المنطق السياسي الاستراتيجي. وهذا يمكن أن يؤدي إلى الاختلاف والانفصال عن العالم الغربي وبيئة الشرق الأوسط الصديقة، مع الانطواء والاعتماد على قدرات إسرائيل الداخلية المستقلة وحدها".