بعد إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مساء أمس الإثنين، عن قراره الاعتراف الفوري باستقلال "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين" في شرق أوكرانيا، تدخل الأزمة الأوكرانية وما يترتب عليها من المواجهة الروسية الغربية غير المباشرة، منعطفا جديدا يشكل إخفاقا نهائيا في تحقيق اتفاقات مينسك للتسوية، ويخلق واقعا مغايرا مستوحى من تجربة اعتراف موسكو باستقلال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا عام 2008.
وفي ختام كلمة متلفزة إلى المواطنين دامت لنحو ساعة، تناولت تاريخ أوكرانيا منذ تأسيس الاتحاد السوفييتي قبل قرن وحتى اليوم، قال بوتين: "أعتقد أنه من الضروري اتخاذ القرار الذي طال انتظاره. الاعتراف الفوري باستقلال وسيادة جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية".
فشل "مينسك"
ويشكل قرار بوتين إقرارا رسميا بفشل اتفاقات مينسك التي تعدّ روسيا، إلى جانب فرنسا وألمانيا، دولا ضامنة للاتفاقات، وليس أطرافا بها، كما يعرّض القرار موسكو لخطر تشديد العقوبات الغربية وتفاقم متاعبها الاقتصادية.
وفي هذا الإطار، يرجع المحلل السياسي في صندوق "الدبلوماسية الشعبية"، المعني بتطوير مؤسسات المجتمع المدني، يفغيني فاليايف حزم موسكو في الاعتراف باستقلال "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك"، مقارنة بما كان الوضع عليه عند اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014، إلى إدراكها أنها ستتعرض لعقوبات جديدة بصرف النظر عن تطورات الوضع.
ويقول فاليايف في حديث لـ"العربي الجديد": "شهدنا على مدى الأيام الماضية انعدام مفعول اتفاقات مينسك، مما أدى إلى مواجهات عسكرية مباشرة بين جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك من جانب وكييف من جانب آخر، ولكن على عكس عامي 2014 و2015، أصبح للجانب الروسي دور أوضح في هذا النزاع. لا تعتبر موسكو أزمة دونباس قضية مستقلة، وإنما تضعها ضمن حزمة الحوار مع الناتو وواشنطن، ومن الواضح أن هذا الحوار لا يفلح اليوم في ظل تحدث الجانبين بلغتين مختلفتين".
وحول العوامل التي زادت من حزم الكرملين للاعتراف باستقلال دونباس، يضيف: "موسكو على قناعة بأنه سيتم تشديد العقوبات المفروضة عليها بصرف النظر عن تطور الوضع، ولذلك أبدت استعدادا للتعامل بحزم أكبر مقارنة بعام 2014. وبعد فقدان اتفاقات مينسك أهميتها، قد تقدم روسيا ليس على الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك فحسب، وإنما على ضمهما أيضا فيما بعد. وفي حالة تواصل التصعيد العسكري وفقا للسيناريو الجورجي وتوغل القوات الروسية في الداخل الأوكراني، فهذا قد يؤدي إلى تغيير توازن القوى في البلاد كلها، وهو أمر لم يحدث في الحالة الجورجية".
وينص مرسوما بوتين القاضيان بالاعتراف باستقلال "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك" على تولي العسكريين الروس مهام حفظ السلام على أراضيهما، وإجراء مفاوضات إقامة العلاقات الدبلوماسية معهما.
من جهته، يعتبر الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية، قسطنطين بلوخين، الاعتراف باستقلال دونباس أمرا منطقيا، ويرجع التأني في اتخاذ هذا القرار إلى توهم موسكو إمكانية امتصاص الأزمة مع أوكرانيا.
ويقول بلوخين في حديث لـ"العربي الجديد": "هذا القرار المنطقي طال انتظاره، وهو جاء نابعا من الأحداث السابقة، ولكنه جاء متأخرا، وكان ينبغي اتخاذه قبل ثماني سنوات. إلا أن القيادة السياسية الروسية كانت متوهمة أن الأزمة سيتم امتصاصها عن طريق تغيير النظام الأوكراني الحاكم، مثلا، ولكن ذلك لم يحدث، بينما بلغت المواجهة مع الغرب مستوى جديدا".
وحول رؤيته للعوامل التي ساهمت في إسراع بوتين في اتخاذ قراره، يضيف: "ربما كان الوضع سيظل على ما هو عليه في حال بقي النزاع متجمدا، ولكن أوكرانيا استثمرت إبداء روسيا حسن النية بسحبها القوات من المناطق الحدودية في الأسبوع الماضي، لشن تصعيد عسكري. ما كان لروسيا ألا تتحرك، حيث لا يجري الحديث عن بلد بعيد وراء المحيط، وإنما عن منطقة حصل أكثر من 700 ألف من سكانها على الجنسية الروسية".
ويتساءل بلوخين: "كيف تتعامل الولايات المتحدة عند تعرض مواطنيها للخطر؟".
خطوات تمهيدية
ومن اللافت أن قرار اعتراف روسيا باستقلال دونيتسك ولوغانسك جاء بعد سلسلة من الخطوات التي من شأنها إشراك سكان دونباس في الحياة السياسية والاقتصادية الروسية، بما في ذلك تسهيل إجراءات حصولهم على الجنسية الروسية، ومشاركتهم في انتخابات مجلس الدوما (النواب) الروسي في سبتمبر/أيلول الماضي، وفتح الأسواق الروسية أمام مصانع دونباس.
وأعلن الرئيس الروسي عن قراره، مساء أمس، بعد اتصالين هاتفيين مع نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني، أولاف شولتز، أطلعهما خلالهما على نتائج اجتماع مجلس الأمن الروسي الذي تناول الوضع الحالي حول دونباس، وإعداد مرسومي الاعتراف باستقلال الإقليمين عن أوكرانيا.
وطلب بوتين من الجمعية الفدرالية الروسية دعم هذا القرار والمصادقة على اتفاقيتي الصداقة والتعاون المتبادل مع الجمهوريتين، محملا "النظام" الحاكم في كييف المسؤولية الكاملة عن احتمال استمرار إراقة الدماء.
كما بث التلفزيون الروسي جانبا من مراسم توقيع بوتين على مرسومي الاعتراف بالجمهوريتين بحضور رئيسي "جمهورية دونيتسك"، دينيس بوشيلين، و"جمهورية لوغانسك"، ليونيد باسيتشنيك، في إحدى قاعات الكرملين بموسكو.
وجاءت هذه التطورات بالتزامن مع موجة غير مسبوقة من التصعيد العسكري شرق أوكرانيا، وسط تبادل طرفي النزاع الاتهامات بانتهاك نظام وقف إطلاق النار، وإجلاء عشرات آلاف من سكان دونيتسك ولوغانسك إلى مقاطعة روستوف الحدودية داخل روسيا.