تونس: ظروف سياسية مواتية لتمرير قانون تجريم التطبيع

20 مايو 2021
خلال تظاهرة في تونس تضامناً مع الفلسطينيين (شاذلي بن إبراهيم/Getty)
+ الخط -

عادت القضية الفلسطينية من جديد لتصبح إحدى الأولويات الرئيسية للتونسيين، على الرغم من الأزمة السياسية والاقتصادية التي يمرون بها. إذ إنّ الشارع التونسي تابع باهتمام وألم التطورات الأخيرة التي شهدتها مدينة القدس المحتلة قبل أن تتسع رقعة المواجهة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي وتتحول إلى حرب مفتوحة ضد قطاع غزة المحاصر براً وجواً وبحراً.

تعددت مظاهر المساندة السياسية، وعلى الرغم من التضحيات الجسيمة للفلسطينيين والخسائر البشرية والمادية التي تزداد يوماً بعد يوم، فإنّ عموم المواطنين التونسيين يشعرون بفخر وهم يلمسون قدرة المقاومة على الوقوف في وجه الترسانة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي، وكأن الطرفين قوتان متوازيتان على الرغم من مرور عشرة أيام من الحرب. هناك إحساس لدى العديد من السياسيين والمثقفين في تونس بأنّ هذا الصمود الفلسطيني، وتعديل موازين القوى الذي فاجأ عموم الإسرائيليين وخاصة جيشهم وقيادتهم السياسية، من شأنه أن يفتح مرحلة جديدة في هذا الصراع الدامي والتاريخي. في هذا السياق، توفّرت الإرادة السياسية لتمرير مشروع قانون تجريم التطبيع في تونس، هذه المرة بتأييد من حركة "النهضة".

وجدت تونس نفسها في قلب الصراع، وذلك بحكم شغلها مقعداً غير دائم في مجلس الأمن، وهي الدولة العربية الوحيدة في المجلس. لقد حاولت الدفع بهذا الهيكل الهام نحو إصدار بيان يدين على الأقل قصف المدنيين، ويدعو إلى إيقاف العدوان، لكنها فشلت نظراً لإصرار أميركا وحلفائها على عدم المساس بما يصفونه بـ"الأمن الاستراتيجي للحليف الإسرائيلي". وكانت تونس قد تقدمت، في 8 مايو/ أيار الحالي، بطلب لعقد جلسة لمجلس الأمن، في 10 مايو، للتداول بشأن التصعيد الخطير لسلطات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، وخاصة في القدس. وأشار بيان لوزارة الخارجية التونسية إلى أنّ "الطلب تم بالتنسيق مع الجانب الفلسطيني، وبدعم من كل من الصين، الرئيس الحالي للمجلس، والنرويج، وأيرلندا، وفيتنام، وسانت فانسنت، وغرينادين، والنيجر (الأعضاء في المجلس)"، وأن نقاش المجلس سيكون "حول انتهاكات إسرائيل في القدس والمسجد الأقصى، واعتداءاتها على الفلسطينيين، وإصرارها على سياساتها التوسعية من مخططات استيطانية وهدم وانتزاع للبيوت، وتهجير للعائلات الفلسطينية، وقضم للأراضي وطمس للهوية التاريخية والحضارية للمدينة المقدسة".

لن ترحب واشنطن وحكومات غربية عديدة بخطوة تجريم التطبيع

ووصفت الخارجية ممارسات سلطات الاحتلال بأنها "تمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، وتهديداً للسلم والأمن الدوليين، وتقويضاً للجهود الرامية إلى تحقيق السلام العادل والشامل في المنطقة". لكن كان معلوماً أن تحقيق الهدف من هذه الجهود لن يكون أمراً سهلاً في ساحة دولية لا تزال تهيمن عليها عقد التعاطف مع إسرائيل.

على الصعيد الشعبي، توالت بيانات التنديد بالعدوان والتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، والتي صدرت عن مختلف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني. كما ارتفعت الدعوات لضرورة إرسال الأدوية إلى غزة، إلى جانب تطوع أطباء لتقديم الدعم لزملائهم في القطاع. كذلك، نظّمت مختلف القوى السياسية والنقابية مسيرات وتجمعات مساندة لحق الفلسطينيين في الدفاع عن أرضهم وحقوقهم ومقدساتهم، كان آخرها أمس الأربعاء بدعوة من "الاتحاد العام التونسي للشغل"، وبمساندة من حركة "النهضة".

لكن الأحداث الخطيرة التي استجدّت على الساحة الفلسطينية هذه الأيام، أعادت الجدل بين أطراف الساحة السياسية والمدنية حول مسألة التصويت لصالح مشروع قانون يجرم التطبيع مع إسرائيل. هذا المشروع الذي تم طرحه خلال فعاليات المجلس الوطني التأسيسي (2011-2014)، بقي يراوح مكانه من دون التوصل إلى اتفاق لحسمه. وقد قيل يوم طُرح، إن حركة "النهضة" عملت على تأجيله وعدم البت به، نظراً للتداعيات المحتملة التي يمكن أن تنجر بعد أن يصبح قانوناً نافذاً.

صحيح أنّ "النهضة" والعديد من كوادرها القيادية ينفون مثل هذه الاتهامات، ويذكرون بأنهم اعترضوا على إدراج مسألة تجريم التطبيع في الدستور خلال مناقشات المجلس التأسيسي، لكن المؤكد أنّ خطوة من هذا الحجم تحتاج إلى الكثير من التفكير والعقلانية، وذلك بالنظر إلى الأوضاع الراهنة التي تمرّ بها البلاد. لن ترحب واشنطن وحكومات غربية عديدة بمثل هذه الخطوة، وسبق أن مارست ضغوطاً مختلفة على تونس للحيلولة دون الاقتراب من سياسات المواجهة المباشرة مع تل أبيب. وعادت هذه الضغوط لتنشط من جديد، بعد التصريحات الأولى التي أطلقها الرئيس قيس سعيّد، والتي أعلن فيها أن "التطبيع خيانة"، سواء قبل انتخابه أو بعد توليه رئاسة الجمهورية. وربما هذا ما يفسّر التغيّر الذي طرأ على خطابه لاحقاً، وتجنبه استعمال العبارات نفسها كلما تم التطرق إلى الموضوع الفلسطيني. لعبت فرنسا دوراً أساسياً في هذا الشأن، بعدما عبرت إسرائيل عن انزعاجها من اللغة التي يتحدث بها الرئيس التونسي.

الأغلبية الواسعة داخل "النهضة" أصبحت متحمسة أكثر من أي وقت مضى لقطع الطريق أمام المطبّعين

مرت حركة "النهضة" بالمسار الضيّق نفسه. فهي متهمة أكثر من غيرها بكونها حركة دينية، قريبة من "الإخوان المسلمين" ومن حركة "حماس" تحديداً. لهذا حاولت في البداية ألا تتصدر الدعوة إلى تجريم التطبيع، ورفضت أن يتم التنصيص على ذلك في دستور 2014. لكنها اليوم، وفي ظلّ التطورات التي تشهدها الساحة الفلسطينية، فإنّ حركة "النهضة" أصبحت مستعدة للتصويت على هذا المشروع، ولم تعد قادرة على رفض ذلك، خصوصاً أن الأغلبية الواسعة داخلها أصبحت متحمسة أكثر من أي وقت مضى لقطع الطريق أمام المطبّعين، حتى لا تتهم بكونها وقفت ضد الإرادة الشعبية، وذلك على الرغم من وجود أصوات داخلها لا تزال تدعو إلى التريّث والتفكير.

تونس مقدمة على تحوّل هام في سياستها الخارجية، ولن تستطيع القوى الأجنبية الآن تغيير الاتجاه أو الحيلولة دون مرور هذا القانون داخل البرلمان. أما من يتحمل مسؤولية ذلك، فهي بالتأكيد الحكومة الإسرائيلية المتغطرسة، والرافضة الاعتراف حتى بالحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني.

المساهمون